ترانيم وحكايا لا تنضب، تنساب بلا حد كلّما أوغلت ببصرك في تفاصيل المدينة الأثرية دڨّة وتزداد تدفقا على إيقاع الموسيقى المنبعثة من المسرح الأثري في افتتاح مهرجان دڨّة الدولي في دورته السابعة والأربعين.
توليفة مثيرة بين الثقافات والحضارات، آثار ضاربة في القدم تعبق منها عطور النوميديين والقرطاجيين والرومانيين والهيلينيين، مدارج صامدة وأعمدة تتطلع إلى السماء وألحان موشحة بروح تونسية أصيلة تتصاعد في الأرجاء.
وفيما الليل يعلن ميلاد حلم جديد وتينع زهرته في أفق المدينة الأثرية وتراقص خيوطه الآثار وتضفي مسحة من الشاعرية على مدارج المسرح الأثري، يعتلي الموسيقيون الركح قبل أن يلتحق بهم الفنان زياد غرسة ويرسم تفاصيل ليلة موشحة بالطبوع والمقامات التونسية.
عناق الموسيقى والآثار يعزلك عن الواقع ويحيطك بهالة من النشوة، وعلى إيقاعه سرت حالة من الفرح والبهجة التي خلقتها الموشحات والأغاني التي صدحت بها حنجرة زياد غرسة الفنان الذي يحمل في قلبه صوت تونس العتيقة والعريقة.
موشحات وأغان من التراث، سيل من الطبوع والمقامات التونسية انهمر على ركح مهرجان دقة حضرت فيها أغاني الهادي القلال والصادق ثريا والطاهر غرسة وغيرهم من الفنانين الذين أثروا المدونة الموسيقية التونسية بدرر عصية على النسيان.
“الغنجة” الصادق ثريا، “يا دار الحبايب” للهادي قلال و”اللي تعدى وفات” للهادي الجويني و”روح من السوق عمار” للهادي حبوبة وغيرها من الاستعادات لفنانين تونسيين نقشوا أسماءهم في الذاكرة الموسيقية غناها زياد غرسة على طريقته بصوته الرنان ذي الخامة المرنة التي تجاري كل المقامات والطبوع.
بنفس الإطلالة التي تنهل من تونس العتيقة وتستحضر الزمن الجميل حيث للكلمة واللحن والصوت سلطانها، صافح الفنان الذي لا يتبدل ولا يتغير جمهوره الذي أحب عشقه للنغمات التونسية الأصيلة التي يخلق لها سبلا مختلفة دون أن يمس جوهرها المحمل بالتاريخ والحكايات.
فيما تتصاعد الجمل الموسيقية بصوت زياد غرسة الذي وشح الآثار الشاهدة على التاريخ تتهافت حكايات الأندلس التي يؤوي المالوف روحها في فضاء يتوقف فيه الزمن عن المضي إلى الأمام، يقتنص من الماضي لحظاته الجميلة ويتحول إلى محمل للفرح.
حالة من الانسجام والتناغم تشكلت بين الفنان الذي يتقن هندسة عروضه وبين الجمهور الذي يلبي نداء مغازلته حتى صارت مدارج مسرح دقة الأثري فضاء مطرزا بالأغاني والهتاف والرقص والتصفيق.
رحلة موسيقية سطر زياد غرسة معالمها وجاب فيها أنماطا موسيقية مختلفة تجلى فيها ثراء الموروث الموسيقي التونسي وأصالته وأثبت فيها أنه فنان بصوت يتعتق بمرور السنين ليأسر الوجدان في كل مرة.
“ترهويجة” و”عزيز قلبك” و”عالمقياس”، أغان خاصة للفنان زياد غرسة افتكت مكانها في الوجدان والذاكرة ومع نوتاتها الأولى تراود الأجساد وتغويها بالرقص وتستحضر مواسم الفرح الذي عم المدارج التي تلونت برقصات الجمهور.
الزمن الجميل، الفرح، الطرب، بعض التعبيرات التي يمكن أن تقترن بسهرة افتتاح مهرجان دقة الدولي التي اختار القائمون عليها أن يكون المالوف والمقامات التونسية فاتحتها قبل الغوص في انماط موسيقية أخرى ستنهمر على الركح في العروض القادمة.