رياليتي أون لاين/ جدة– “ضي” طفل ألبينو تلاشت مادة الميلانين من خلاياه وتركت نورا في وجهه لا يدركه إلا من يبصر العالم بطرف قلبه، يقاوم يوميا من أجل الحياة والحلم.
هذا الطفل الذي يستمد اسمه من الضي الذي يغمر وجهه يواجه مرارا العتمة المتراكمة على أعتاب العنصرية والتمييز ورفض الآخر المختلف والإمعان في أذيته.
على إيقاع حياة هذا الفتى الذي آنس صوته العذب غربته وسط محيطه تمضي أحداث فيلم “ضي” للمخرج كريم الشناوي وتأليف هيثم دبور وتتشكل معالم رحلة موغلة في المكان وفي الإنسانية.
متخذا بعض ملامحه من سينما الطريق، يقتفي الفيلم أثر الجمالية في أماكن مختلفة من مصر على غرار أسوان والأقصر والقاهرة وفي تفاصيل متعددة تمتد من ملامح الوجوه إلى البناءات والشوارع.
الوجوه في الفيلم جذابة، تقاسيمها ترشح بالأحاديث في ذروة الصمت، ملامح من طينة الفيلم الذي يترنح على إيقاعه المشاهد بين العبرات والضحكات وتتلبس مشاعره بعضها ببعض.
ولعل ما يحسب للمخرج كريم الشناوي هو الكاستينغ إذ بدت الشخصيات على قياس الممثلين حتى أن بعض المشاهد بدت تسجيلية لما تحمله من عفوية وبساطة وعدم تكلف في الأداء.
بدر محمد الوجه الجديد الذي يلبي مواصفات “ضي”، الممثلة السعودية آسيل عمران، والممثلة السودانية إسلام مبارك، والممثلة المصرية حنين سعيد، وغيرهم من الممثلين تماهوا جميعا مع الشخصيات حتى توهجت.
إلى جانب الاختيار المقنع للمثلين، تعد كادرات التصوير من ركائز الفيلم إذ تراوح بين الجانب الاستيتيقي الذي يظهر معه جمال مخصوص لمحافظات مصر وبين الجانب المضموني حيث تحاكي الأحداث والمواقف.
فضاءات بعضها مغلق وأغلبها مفتوح يحيل إلى انفتاح حياة “ضي” على كل الاحتمالات وهو الذي خاض رحلة مع معلمته (آسيل عمران) ووالدته (إسلام مبارك) وأخته(حنين سعيد) ليعانق حلمه بالغناء في برنامج للمواهب.
سرد درامي وبصري لقصة يتماهى فيها الوجع بالمقاومة وتنهمر على جنباتها ظواهر مجتمعة لامسها الفيلم بسلاسة دون أن يخل بمسار حكاية “ضي” التي تستبطن كل المواضيع.
علل المجتمعات جميعها تسربت من بين تفاصيل الفيلم والتقت جميعها عند نبذ الاختلاف ومحاولة فرض الوصاية على الآخر والإمعان في التعنت والتعصب لبعض الأراء رغم الوعي بخوائها.
كلما تواترت المواقف أو الأحداث ينهل الفيلم من ظاهرة مجتمعية ما في لحظات عابرة لكنها ترسخ بالذاكرة لما يرافقها من أداء صامت ترسخ معه النظرات والإيماءات في الذاكرة البصرية.
من شخصية الطفل النوبي الذي يتنكر لنوبيته وللون الأبيض وللشمس في رد فعل على كل الإهانات التي لحقته من محيطه، يتخذ الفيلم هالة من التشويق تتزايد مع المواقف التي تعترضه ورفاقه في الرحلة.
أن يدير الطفل ظهره لكل ما يحيل إلى هيئته ليس وليد اللحظة إنما نتاج لأكوام من الكلمات الموجعة التي تنطلق من أسرته التي لم تُجد التعبير عن الحب ولم تع معنى الاحتواء والحماية.
لكن ما يفسده المجتمع قد تمحيه أغنية لمحمد منير تشحذ العزيمة وتضفي مسحة من الشاعرية على الواقع وتنبت للأرواح أجنحة تطير بها خارج سجن الأجساد وما يرفقه من أدران وأمراض.
الفنان محمد منير وأغانيه ركيزة من ركائز الفيلم الذي شكل بعض مشاهده على إيقاع صوته أو صوت “ضي” مرددا أغانيه، هذه المشاهد موشحة بالأمل منبئة بالإنفراج مدغدغة للعاطفة والوجدان.
أماكن التصوير، ملامح الشخصيات، السرد، عناصر تعززت بالحضور الصارخ لمحمد منير الذي تحملك أغانيه إلى عوالم ملؤها الحس والشاعرية تتفتح معها أبواب الذاكرة وتنغمس على وقعها في ثناياك.
فيما تحاول الشخصيات الصمود إثر الانهيارات المتتالية، تتوسع دائرة الضوء ويعم الضي الأثير وكأن رغبته في تحقيق حلمه صارت بمثابة العدوى تصيب كل من يصادفه عرضا.
أحيانا قد يبدو السرد متدفقا في اتجاه يتسم بالمبالغة في التخيل لكن ما إن يصدح صوت “ضي” أو محمد منير بالغناء يتبدد هذا الظن ويبدو الحدث منطقيا من ذلك اللقاء الذي جمع الثنائي في المستشفى.
بل إن مساحة التخيل التي تتيحها الأفلام الروائية فرصة للتشافي من علل المجتمع وفسحة لرسم نهاية أخرى للتمييز والعنصرية بيد الضحية لا الجلاد؛ نهاية ترتسم فيها الابتسامات على الوجه وهي تعانق دموع الفرح ويصدح فيها صوت “ضي” بأغنية نوبية.
وفيما يتحرر صوت “ضي” من حنجرته تصاغ الأحداث من جديد على إيقاع انعتاق الشخصيات من قيود المجتمع حينما قررت أن ترى بعيون القلب وتتجاوز كل إكراهات الواقع والمجتمع.