في ريف الشمال الغربي، حيث تذبل الحقول وتشق الأرض جفافا، يتطلع الفلاحون إلى السماء بقلق وترقب. سنوات من الجفاف المتكرر أدت إلى أزمة مائية حادة تهدد الأمن الغذائي والاقتصادي للبلاد. في هذا السياق، تبرز تقنية الاستمطار الاصطناعي كأحد الحلول المبتكرة التي تسعى تونس إلى تجربتها، في محاولة لتخفيف وطأة ندرة المياه المتفاقمة بفعل تغير المناخ.
الوضع المناخي في تونس: أرقام تنذر بالخطر
تشهد تونس منذ سنوات اختلالا مناخيا متزايدا، يتجلى في ارتفاع درجات الحرارة وتراجع التساقطات مما أثر على منسوب المياه في السدود. وفقا لوزارة الفلاحة، بلغ معدل امتلاء السدود في مارس 2025 حوالي 35.5% من طاقتها التخزينية، أي نحو 835 مليون متر مكعب، وهو أقل من نفس الفترة في العام السابق ومعدل السنوات الثلاث الماضية. لكن مع حلول ماي 2025، تحسنت النسبة إلى نحو 39.2%، وبلغت 40.2% منتصف الشهر ذاته، مع توقعات بأمطار أعلى من المعدل في بعض المناطق.
رغم هذا التحسن النسبي، فإن الوضع لا يزال هشا، خصوصا مع توقعات المعهد الوطني للرصد الجوي لصيف 2025 الأكثر سخونة وجفافا من المعتاد، مع تساقطات لا تتجاوز 30 ملم في بعض المناطق. كما تفقد تونس سنويا نحو 130 مليون متر مكعب من مياه السدود بسبب التبخر الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة.
وتصنف تونس ضمن الدول الأكثر عرضة لندرة المياه عالميا، حيث يبلغ نصيب الفرد حوالي 420 متر مكعب سنويا، أقل بكثير من الحد الأدنى الموصى به عالميا (1000 متر مكعب).
وحسب الخبير في التنمية والتصرف في الموارد حسين الرحيلي أن هذا التحول لم يعد مجرد تقلبات ظرفية، بل انهيار واضح في التوازن المناخي الذي ميّز البلاد لعقود.
الجفاف: أزمة هيكلية تمتد لسنوات
يؤكد الرحيلي لرياليتي أون لاين أن الجفاف في تونس لم يعد ظرفيا، بل أصبح ظاهرة هيكلية طويلة الأمد. فقد شهدت البلاد ست سنوات من الجفاف المتكرر، منها خمس سنوات متتالية، مع ارتفاع قياسي في درجات الحرارة وتراجع ملحوظ في مخزون المياه الجوفية وسدود البلاد.
هذا الواقع يهدد بشكل مباشر القطاع الزراعي الذي يستهلك أكثر من 80% من الموارد المائية المتاحة، ويزيد من الضغط على البنية التحتية المائية، ما يستدعي البحث عن حلول مبتكرة ومستدامة.
الجفاف ومفاعيله الاجتماعية والبيئية
لا يقتصر تأثير الجفاف على الموارد المائية فحسب، بل يترك تداعيات عميقة على الحياة الاجتماعية والبيئية، خاصة في الأرياف التونسية التي تعتمد بشكل كبير على الزراعة المطرية وتربية المواشي. ففي عدة ولايات مثل الكاف وسليانة والقصرين، أدى تراجع الأمطار وجفاف الآبار إلى هجرة عدد من العائلات نحو المدن، بحثا عن بدائل اقتصادية، وهو ما وثّقه تقرير للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 2024 ضمن ما يُعرف بـ”الهجرة البيئية”. كما فاقمت هذه الظروف من هشاشة النساء والفئات العاملة في القطاع الفلاحي غير المنظم، حيث تراجعت فرص العمل الموسمي، وارتفعت نسب البطالة في المجتمعات الزراعية.
على المستوى البيئي، أثّر الجفاف طويل الأمد على التنوّع البيولوجي المحلي، لا سيما في المناطق الرطبة والجبال، حيث سُجّل تقلّص في الغطاء النباتي، وتراجع أعداد بعض الطيور المهاجرة التي كانت تعتمد على تلك المناطق كمحطات عبور. كما حذّر خبراء من تهديد الجفاف للنظم البيئية الجبلية مثل غابات عين دراهم، التي باتت تواجه ضغطا بيئيا مزدوجا: الجفاف من جهة، والحرائق من جهة أخرى. هذا التدهور البيئي والاجتماعي يعكس الحاجة الملحة لتبني مقاربات شاملة تراعي الأبعاد التقنية والبيئية والإنسانية في آن واحد.
الاستمطار الاصطناعي: تقنية بين التجربة والطموح
الاستمطار هو تقنية تعديل الطقس تعتمد على رش مواد كيميائية مثل يوديد الفضة داخل السحب الركامية لتحفيز تكاثف بخار الماء وهطول الأمطار. في 16 أفريل 2025، أطلقت تونس أول تجربة ميدانية للاستمطار في حوض سد سيدي سالم بولاية باجة، بالتعاون بين وزارة الدفاع ووزارة الفلاحة والمعهد الوطني للرصد الجوي.
رُشّت جزيئات يوديد الفضة بواسطة طائرة عسكرية معدلة في السحب المناسبة، وكانت النتائج الأولية محدودة لكنها شكلت خطوة مهمة نحو بناء برنامج وطني للاستمطار.
واعتبر الخبير حسين الرحيلي أن “الاستمطار، في ظل إمكانياتنا الحالية، يشبه قفزة في الهواء.” وأضاف: “لا توجد نتائج علمية منشورة تؤكد نجاح التجربة التجريبية، ولا يمكن ربطها علميًا بالتساقطات الأخيرة.”
التحديات والقيود التقنية والبيئية
رغم ما تبعثه تقنية الاستمطار من آمال في مجابهة أزمة الشح المائي، إلا أنّها ما تزال تصطدم بجملة من القيود والعوائق التي تحدّ من فاعليتها، خاصة في السياق التونسي. فهي تعتمد بالأساس على وجود سحب ركامية تحتوي على كميات كافية من بخار الماء، وهو ما لا يتوفر باستمرار، لا سيما في المناطق الجافة والجنوبية من البلاد. كما تتطلّب هذه التقنية تجهيزات لوجستية متقدمة، من طائرات معدّة خصيصا لذلك، إلى أنظمة رصد دقيقة قادرة على تحديد التوقيت والمكان المناسبين للتدخل. ويُضاف إلى ذلك غياب إطار قانوني واضح يُنظّم عمليات الاستمطار، فضلا عن الحاجة إلى دعم البحث العلمي لتقييم نجاعة هذه التدخلات ومتابعة آثارها البيئية. ومن بين أبرز المخاوف التي تُثار كذلك، مسألة التراكم المحتمل لبعض المواد الكيميائية المستعملة، مثل يوديد الفضة، في التربة والمياه الجوفية، ورغم أن الكميات المستخدمة تُعتبر ضئيلة وآمنة وفقا لتقارير وكالة حماية البيئة الأمريكية، إلا أن المراقبة البيئية الدائمة تبقى أمرا لا غنى عنه لضمان سلامة المنظومات الطبيعية على المدى الطويل.
وحذر الخبير حسين الرحيلي في تصريح لرياليتي أون لاين من أن هذه المواد قد تتسبب في اختلالات بيئية على المدى الطويل، مثل تغيير نمط توزع الأمطار بين الساحل والداخل.
ثغرات تشريعية وتحديات الحوكمة المناخية
رغم الخطوات الفنية والتجريبية التي بدأت تونس تخطوها في مجال الاستمطار والتصرف في الموارد المائية، إلا أن الإطار القانوني والتشريعي لا يزال متأخرا عن مواكبة هذه التحولات. فلا وجود حاليا لقانون خاص يُنظم تقنيات التعديل المناخي مثل الاستمطار، ما يفتح الباب أمام إشكاليات تتعلّق بالمراقبة، السلامة البيئية، والمساءلة في حال حدوث أضرار محتملة.
من جهة أخرى، يشير تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) سنة 2023 إلى أن حوكمة التغير المناخي في تونس ما تزال مجزأة وتعاني من ضعف التنسيق بين الوزارات والهياكل المحلية، فضلا عن غياب مقاربات تشاركية تُراعي خصوصيات الجهات في التخطيط المناخي. كما أن قانون المياه الجديد، الذي ظل لسنوات قيد النقاش في البرلمان، لم يُصادق عليه حتى الآن، ما يُبقي إدارة المياه رهينة نصوص قديمة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي.
هذه الفجوة التشريعية تُضعف قدرة الدولة على مواجهة الأزمات المناخية والمائية المتصاعدة، وتحدّ من فاعلية التقنيات الحديثة مثل الاستمطار، خاصة في غياب استراتيجية قانونية تأخذ بعين الاعتبار العدالة البيئية والحق في الماء كحق دستوري ومجتمعي.
الرؤية المستقبلية: استراتيجية وطنية شاملة
تجربة الاستمطار في تونس تمثّل خطوة واعدة قد تفتح آفاقا جديدة في مجال إدارة الموارد المائية، غير أنها لا يمكن أن تُعدّ بديلا عن استراتيجية وطنية شاملة ومستدامة للتصرف في المياه. فمن الضروري أن تنظر تونس إلى الاستمطار كأداة تكميلية ضمن حزمة من الحلول المتكاملة، تشمل أساسا تطوير البحث العلمي في هذا المجال وتقييم الآثار البيئية والاجتماعية المرتبطة به، إلى جانب توسيع الاستثمار في تقنيات تحلية مياه البحر وإعادة استخدام المياه المعالجة، وهي مصادر غير تقليدية تزداد أهميتها في ظل تفاقم الشح المائي. كما تبرز الحاجة الملحة إلى تحسين كفاءة شبكات توزيع المياه للحد من الفاقد، مع تكثيف جهود ترشيد الاستهلاك على المستويين الفردي والمؤسساتي. وفي مواجهة التحديات المناخية المتصاعدة، يصبح تعزيز التعاون الإقليمي في مجال المياه والمناخ أمرا محوريا لضمان الأمن المائي المستقبلي لتونس والمنطقة ككل.
ويشدد الرحيلي على أن تونس تُهدر كميات هامة من المياه سنويا، داعيا إلى تحسين إدارة الموارد الحالية قبل التوجه إلى حلول باهظة مثل الاستمطار.
الاستمطار في تونس تجربة واعدة في مواجهة أزمة الجفاف، لكنها ليست الحل الوحيد. يتطلب النجاح إرادة سياسية، تمويلا مستداما، وتكاملا بين الحلول التقنية والعدالة البيئية. في ظل صيف 2025 المتوقع أن يكون الأكثر سخونة وجفافا، يبقى الأمل معلقا في سماء تونس، بانتظار غيثٍ قد نصنعه نحن… أو تصنعه الطبيعة.
أميمة زرواني
الصورة مُولّدة بالذكاء الاصطناعي