يوم 26 نوفمبر 1958 تلاشت أنفاس الفنانة صليحة ولم يتلاش صوتها الذي ظل يروي إلى اليوم مساراتها الفنية والإنسانية وبعضا من عذاباتها في مواجهة الحياة التي أعرضت عنها كثيرا ولكنها أبت إلا أن تحياها ما استطاعت إليه سبيلا.
قبل يوم من ذكرى رحيلها شهدت قاعة الطاهر الشريعة بمدينة الثقافة عرضا لفيلم “صليحة.. صوت تونس الأعماق” من إخراج سماح الماجري وإنتاج الجزيرة الوثائقية، وهو وثائقي روائي يلامس بعضا من حياة هذه الفنانة التي خلدت اسمها في المدونة الموسيقية.
جميل أن يهتم المخرجون والمخرجات بحيوات الفنانين الذين تركوا بصمة لا تمحى في الساحة الفنية عبر إرث غنائي ثري كلمات وألحانا ومقامات وطبوع ولكن الأجمل هو الانغماس فيها والإتيان على اللحظات الفارقة فيها بكل ما تحمله من انفعالات ورصد الجوانب الخفية أو غير المعلومة.
وإن روى الفيلم بعضا من مسيرة الفنانة صليحة الملقبة بـ”كوكب المغرب العربي” و “ايديث بياف” العرب لكنه لم يوغل في اللحظات الفارقة ولم يستعرض تفاصيل قد تبدو ذات أهمية للبعض على غرار ولادة الأغاني ألحانا وكلمات كما أنه لم يول التصوير في دشرة نبر منشئها أية أهمية.
وإن حاول الفيلم الانغماس في عمق الفنانة من خلال سرد ما يختلج في دواخلها لكن الكلمات في بعض المواضع لم تكن في مستوى المآسي والآلام التي عايشتها إمرأة رفعت لواء التحدي عاليا وقارعت الحياة إلى آخر رمق.
وما يجعل الملاحظات السابقة مشروعة هو اختيار المخرجة المزج بين الوثائقي والروائي في هذا العمل وهو ما يتيح لها المجال لإبراز تفاصيل غائبة عن جمهور الفنانة ويهمه أن يعرف ولا يتعلق الأمر هنا بالخصوصيات التي لا تعني إلاها.
الفيلم يعرّج على أصول الفنانة الجزائرية وانتقال عائلتها من دشرة نبر حيث نشأت إلى تونس مرورا بماطر وأماكن أخرى قد يتوفر فيها مصدر رزق لوالدها والظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي واجهتها العائلة وانتهت بتشتتها.
كل هذه التفاصيل لم تتبدّ بطريقة معمقة تفضي إلى مسيرة فنانة أطربت الجمهور بالألم الذي تحمله في قلبها وتحول إلى بحة موشحة بالشجن تزين صوتها العصي على النسيان، صوت لعبت الصدفة دورا في اكتشافه وكأن القدر أراد أن يكفّر به عن كل ذلك الألم الذي أذاقه إياها.
بعد خيبات متتالية وخذلان وقسوة مجانية تسببت في طردها من قبل المغنية “بدرية” التي استشعرت الغيرة منها قبل الأوان واستكثرت على “خادمة” صوتها الذي لفت إليه الأسماع، كان دخول صليحة إلى الراشدية مفصليا في حياتها.
استنادا إلى أهمية المدرسة الراشدية في مسيرة المرأة ذات الصوت المطرز ببدوية ساحرة، انشغل الفيلم بحضور خميس ترنان في المسيرة الفنية لصليحة ولم يعرج بالسكل الكافي على بقية الملحنين الذين تعاونت معهم لخلق درر فنية.
العمل في المنازل، مختلف ضروب الاستغلال، الغناء في الكافيشانطات، مراحل من الشقاء عايشتها “صلوحة” ولم يصورها الفيلم وربما هو اختيار من المخرجة سماح الماجري بإسقاط بعض التفاصيل الموجعة ولكن لولاها لما كان أداؤها حينما صارت “صليحة” محملا بالصدق.
الفنانة التي رحلت في سن مبكرة في ربيعها الرابع والأربعين لم تكتف منها الآلام والأوجاع إذ كانت عرضة للإهانات من قبل زميلاتها في الراشدية ولم يشفع لها صوتها المميز في البدء ولكنها لم تستسلم وافتكت مكانها في الساحة الفنية بإصرارها.
هذه التفاصيل وغيرها مر عليها الفيلم كما مر على المراسلة التي وجهتها إلى الراشدية والتي طلبت فيها تخصيص أجر لها حتى تتمكن من مضاهاة زميلاتها، لم تطلب الكثير، كانت فقط ترغب في أن تخرس الألسنة التي انطلقت نحوها كالسياط.
كما وشمها ظل صوتها ثابتا وظلت تحمل بدويتها في قلبها، ربما ذلك ما كان يميزها ويجعل منها شخصية مغرية بمزيد اكتشافها، شعور يتعزز مع ظهور حفيدتها نعيمة دالي (ابنة شبيلة راشد) في الفيلم لعلها تروي مزيدا عنها.
لكن حديثها عن أمها صلوحة لم يكن بالوفير إذ اكتفت بحديثها عن مكانها في غرفتها قبل حفلاتها واهتمامها بإطلالتها وهو ما ذهب إليه أيضا بعض المتدخلين من كتاب ومختصين في الموسيقى والتراث.
وفي الفيلم راوحت المخرجة بين شهادات المختصين على غرار عبد الستار عمامو وأحمد الحمروني وفتحي زغندة وعلي السياري ومختار المستيسر وبين مشاهد تصويرية تحاكي هذه الشهادات، بالإضافة إلى بعض الوثائق على قلتها.
وما يحسب للفيلم إلى جانب جمالية الصورة و”كادرات” التصوير، الكاستينغ إذ نجحت المخرجة في اختيار ممثلة بملامح قريبة من الفنانة صليحة وهي عائدة جفال وممثلين أقنعا في مرورهما في دوري حسونة بن عمار وخميس ترنان وهما عبد الكريم البناني ووسيم سبيقة كما نجح مليك السديري في استحضار تلك الفترة عبر القيافة والتجميل.
ورغم بعض الملاحظات في علاقة بالسيناريو والسرد وإتقان بعض التفاصيل فإن هذا العمل يستحضر فنانة لم تكسرها كل الصعوبات، فنانة سكبت كل ما قاسته في بحتها وانت لآخر مرة أمام الجمهور “مريض فاني” بعد أن هربت من المستشفى..
وكثيرة هي التفاصيل السوريالية التي تطرز حياة الفنانة التي يشبه صوتها وشمها الذي يعلو جبينها ويشبه صمودها بدويتها النقية التي لم تتأثر بكل السوء الذي اعترضها في المدينة …..