نواصل عبر هذا المقال سلسة المقالات التي نعتزم إنجازها بمناسبة زيارتنا للعاصمة بكين ولإقليم نينغشيا، في إطار “الدورة التدريبية حول بناء قدرات التواصل الإعلامي” التي نظمتها من 19 أوت إلى 1 سبتمبر شركة التعاون الدولي الاقتصادي والتقني للبث الصيني CBIC تحت رعاية وزارة التجارة الصينية، لفائدة وفد إعلامي ضمّ ممثلين لوسائل إعلام تونسية عمومية وخاصة.
لم يمر سوى يوم واحد على قدومنا إلى الفضاء المخصص للإقامة بالعاصمة بيكين، وهو عبارة عن قصر للمؤتمرات والمعارض مجهز بجميع المرافق السكنية والسياحية المناسبة والضرورية لهذه الأنشطة فضلا عن حديقته الغناء وحوضه المائي الجميل الذي تحتله الأسماك و أسراب من البط، حتى تملّكتنا رغبة جامحة في اكتشاف هذه المدينة الساحرة التي لطالما تناهى الى مسامعنا جمالها وبهاؤها.
وأمام زخم البرنامج الذي أعده لنا منظمو هذه الدورة التدريبية، لم يكن أمامنا بدّ من تَحيُّنِ أدنى الفرص لاستكشاف ما تيسّر لنا من المعالم التي تخفيها هذه المدينة الشاسعة. كيف لا وهي التي تعد آخر العواصم القديمة بالصين، والمشتهرة بـقصورها التليدة ومعابدها العديدة وحدائقها الغنّاء ومقابرها وجدرانها الحصينة وبواباتها الصامدة، وكنوزها الفنية والأثرية التي يصعب إحصاؤها.
نحو الهدف…
رغم صعوبة المهمّة في بدايتها إلا أن رغبتنا الجامحة في المضي قُدمًا نحو الهدف كانت أقوى من موجات التردد التي تملّكت البعض منا مخافة أن نقع في بعض المطبّات خصوصا أن عملية التواصل مع الأهالي لم تكن بالأمر اليسير لولا بعض التطبيقات الالكترونية المخصصة للترجمة والتي كانت بمثابة طوق النجاة أمام كل زائر تعوزه القدرة على تكلّم اللغة الصينية. ولعلّي شخصيا كنت من بين المتردّدين في بداية الأمر بالنظر إلى تجربة سابقة خضتها عند قدومي الى بكين سنة 2015 عندما انقطعت بي السبل ليلا وعجزت لوقت طويل عن العودة الى مقر الإقامة لولا تدخّل أحدهم وذلك بسبب عجزي التام على التواصل مع أهل المنطقة الذين لم يتمكنوا من مد يد العون لي.
لم تكن “مغامرتنا” الأولى بالصعوبة التي توقّعناها حيث أن الوصول إلى وجهتنا كان من السهولة بمكان ذلك أن الحافلة التي امتطيناها من أمام مقر الاقامة أقلّتنا مباشرة إلى الوجهة التي ابتغيناها ولم يتطلّب الأمر سوى بعض الدقائق المعدودات، لا بسبب قرب المسافة وإنما بسبب انسيابية حركة المرور باعتبار الاولوية التي كانت تمنح وجوبا وبطريقة تلقائية أيضا لوسائل النقل العمومية وكذلك لعدم تعطّل الحافلة عند الدخول والخروج من المحطات بسبب تواتر السفرات بشكل لافت مما ساهم في تفادي الازدحام واختصار وقت الرحلة.
وبمجرد بلوغنا المعبد السماوي أو المذبح الإمبراطوري الواقع بشارع تيان تان ني دونغ لي جيا 1، بحي دونغ تشنغ -وهو عبارة عن مجمّع من المباني التي تستلهم معمارها من البعد الديني تم تشييدها في الفترة من 1406 إلى 1420 في عهد الإمبراطور يونغلي، المسؤول أيضا عن تشييد “المدينة المحرّمة” التي لم يسعفنا الحظ في زيارتها رغم توقنا الشديد الى ذلك- حتى بدأت رحلتنا في استكشاف أحد أهم المعالم التاريخية والأثرية في المنطقة.
المعبد السماوي : تحفة معمارية تخلّد عناق السماء والأرض !
حال وصولنا الى نقطة بيع التذاكر الخاصة بالدخول تم تخييرنا، وذلك بحسب الأسعار المقترحة، بين التجول في أماكن بعينها أو كامل الفضاء. لم يكن أمامنا بد، ونحن التوّاقون الى سبر أغوار الأسرار المكتنزة -التي تلوح بشائرها من خلف الجدران وخلف البوابات الالكترونية الحديثة التي تفصل المعبد عن زائريه- والمتلهّفين الى استحثاث الخطى نحو هذه المباني غريبة الشكل التي نتطلّع الى الولوج إليها والتقاط الصور التذكارية داخلها ، سوى القبول بأي عرض يمكننا من إرضاء فضولنا وإشباع نَهمِنا الاستكشافي والمعرفي.
ولعلّه من المهم بمكان الاشارة هنا الى أن القائمين على هذا الفضاء الشاسع يعتمدون، وبحسب ما ورد في البوابة الإلكترونية* لحديقة المعبد، على نظام فصلي في فتح الفضاءات أمام الزوّار المحليين خصوصا وكذلك الأجانب القادمين أساسا من بعض الدول الغربية كاسبانيا والبرتغال، حيث تفتح فضاءات وتغلق أخرى بحسب تقلبات الطقس من ذلك مثلا أنه تُفتح في فصل الصيف (وهو الفصل الذي وافق موعد زيارتنا) البوابة الغربية وحديقة بي هوا وقصر شين له وقصر تشاي وجدار صدى الصوت وتلة المذبح المستديرة وجسر دان بي وقاعة صلاة الحصاد الجيد والبوابة الشرقية في حين تفتح البوابة الشرقية والمعبد الخارجي شمال شرقي المعبد السماوي وقاعة صلاة الحصاد الجيد وجسر دان بي وجدار صدى الصوت وتلة المذبح المستديرة و قصر تشاي وقصر شين له والمعبد الخارجي شمال غربي المعبد السماوي والبوابة الثانية الشمالية والبوابة الشمالية في فصل الخريف. أما في فصل الشتاء وهو الفصل الأكثر قساوة فتفتح فقط البوابة الشرقية والممر الطويل وقاعة صلاة الحصاد الجيد وقصر تشاي وقصر شين له وجدار صدى الصوت وتلة المذبح المستديرة والبوابة الجنوبية. في حين أنه، وخلال فصل الربيع، أكثر الفصول اعتدالا كما هو الحال في ربوعنا، بإمكان الزائرين لهذا الفضاء الرحب، الذي زادته أشجار الصنوبر الباسقة التي تكاد تعانق السماء والأزهار المتفتحة ذات الألوان المختلفة والعشب المترامي الأطراف رونقا وسحرا وجمالا، التجول بين البوابة الغربية والمعبد الخارجي شمال غربي المعبد السماوي وقاعة صلاة الحصاد الجيد وجسر دان بي وقصر تشاي وقصر شين له وجدار صدى الصوت وتلة المذبح المستديرة والبوابة الجنوبية.
ومن المهم الإشارة الى أن ما يميّز كل هذه الفضاءات التي لم تسنح لنا وللأسف الشديد فرصة زيارتها كلها بسبب ضيق الوقت والازدحام داخلها وكِبر المساحة التي تمتد عليها، هو المثال الهندسي الدقيق الذي اعتمده مشيّدوها والقائم أساسا على الرمزية الكونية في علاقة وطيدة بعلم الكونيات أو علم الفلك الصيني الذي يجعل من الأرض والسماء محوري الكون الرئيسيين وفي ذلك أيضا امتداد للبعد الديني. حيث أن الحدائق والساحات الممتدة التي تحيط بهذه المباني والتي تحولت اليوم الى قبلة الآلاف من الزوار يوميا من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية والجنسيات كانت في ما مضى مسرحا للطقوس الاحتفالية التي يطلق عليها “مراسم عبادة السماء”. وهي مراسم تُقام “في كل الانقلاب الشتوي عندما يقود الإمبراطور موكبًا كبيرًا من المدينة المحرمة إلى المعبد. تضمن الحفل المتقن التضحيات والصلوات والموسيقى وكان الهدف منه تأمين فضل السماء للإمبراطورية. كانت عبادة السماء جزءًا لا يتجزأ من الأيديولوجية الإمبراطورية الصينية لأنها عززت شرعية حكم الإمبراطور. كان محور هذه الطقوس هو فكرة “تفويض السماء”، وهي سلطة إلهية تُمنح لحاكم مستقيم ومستحق. وهذا الارتباط بين سلوك الحاكم ومصير البلاد جعل من الشعائر جانباً حيوياً من جوانب الحكم والاستقرار السياسي. كان الإمبراطور يصوم ويتأمل قبل الحفل، لضمان نقاء العقل والروح الضروري للتواصل مع السماء.”**
غير أن هذا المعلم الأخّاذ كان من الممكن أن يتم تحويله إلى قبلة سياحية عالمية بالنظر إلى قيمته الحضارية وزخمه التاريخي حيث أن عدد السياح الأجانب الذين لقيناهم أثناء زيارتنا لم يكن بالعدد اللافت مقارنة بعدد الزوار من الصينيين القادمين من مدن وأقاليم أخرى. وباستفسارنا حول الموضوع أكد لنا البعض أن وراء الأمر عوامل عديدة منها البعد الجغرافي الذي يحول دون وصول الوفود السياحية بكثافة الى الصين، رغم أنها تعد من القبلات السياحية الكبرى في العالم ( شنغهاي، بكين، هونج كونج وكوانزو هي أكثر المدن الصينية استقطابا للسياح)، وكذلك “القطيعة الايديولوجية” بين الصين والدول الغربية التي تمثل أكبر “مصدّر” للسياح وكذلك تواصل سياسة “الانغلاق الحمائي” الذي تنتهجه الصين من أجل حماية نموذجها المجتمعي وتعويلها على قدراتها الذاتية بما في ذلك رصيدها الديمغرافي لإحياء أنشطتها الاقتصادية ومن ضمنها السياحة. ولعلّ التطوّر المطّرد للمستوى المعيشي لدى المجتمع الصيني وثراء الرصيد الحضاري لهذا البلد الممتد على أكثر من 9 مليون كلم مربع والتنوّع الكبير في نسيجه المجتمعي وثرائه القومي والعرقي لشعب يفوق عدده المليار و400 مليون نسمة جعل من السّياحة الداخلية الرافد الرئيسي والأهم للنشاط السياحي ككل.
ويتجلّى ذلك من خلال ما لاحظناه عند زيارتنا للمعبد السّماوي من إقبال العديد من الصينيين الذين عجزوا عن إخفاء اعجابهم، تماما مثلنا’ الذي بلغ حد الانبهار سواء بالشكل المعماري او بما احتوته هذه المباني من مكونات كالتحف والآثار والأدوات والأواني وغيرها من المحتويات المعروضة أمام الزائرين والمتاحة للتصوير دون قيد أو شرط وكذلك بالملابس التقليدية والمميزة للحضارات الصينية المتعاقبة التي انبرت العديد من الصينيات ترتديها للسماح للزائرين بالتقاط بعض الصور مقابل بعض الأموال وأحيانا دون مقابل كما كان الأمر مع العديد منا.
سور الصين العظيم : رحلة الألف خطوة…
لئن كان المعبد السماوي أحد أهم المعالم التاريخية والحضارية التي تميز العاصمة الصينية بيكين، فإن سور الصين العظيم، الذي تمكّنا من اكتشافه باعتبار زيارته كانت ضمن البرنامج العام للدورة التدريبية، هو أهمّ تلك المعالم الخالدة وهو الذي تم تصنيفه سنة 2007 ضمن عجائب الدنيا السبع الجديدة وضمّه لقائمة اليونسكو للتراث العالمي.
زيارة هذا المعلم التاريخي والحصن العسكري القديم الذي تم تشييده منذ أكثر من ألفي عام على مساحة شاسعة تمتد من إقليم منشوريا إلى صحراء غوبي ثم البحر الأصفر (شمال الصين) كان بمثابة الحلم بالنسبة للعديد منا وربما كنت ولهم ناهيك أنه لم تسنح لي هذه الفرصة خلال زيارتي السابقة مما حزّ في نفسي كثيرة وخلف لدي حسرة من امكانية عدم توفّر فرصة مشابهة لاكتشاف هذا الصرح الفريد والتحفة المعمارية الممتدة على أكثر من 21 ألف كيلومتر.
كنت أنتظر موعد الزيارة الموافق لليوم قبل الأخير من الدورة التدريبية بفارغ الصبر كيف لا وأنا الذي لطالما اعتبرت زيارة السور هو الركن الرئيسي من أركان “الحج” إلى الصين حيث من دونه يبقى الزائر”كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه”***. فكان لابد والأمر كذلك من استغلال كل الوقت المتاح للاستمتاع بما ستتيحه لنا هذه الزيارة من فرص لاستكشاف ما بلغ مسامعنا دون أن تبلغه أعيننا وتستأنس بجماله أفئدتنا.
ولم يكن الوقت الطويل الذي استغرقته الرحلة من مقر الإقامة الى السور (أكثر من 100 كم) الاّ برهة من الزمن هوّن الشوق علينا مشقّتها وقادنا سريعا، عبر الطرق السريعة الآمنة والمحاطة بأجمل المناظر الطبيعة الخلاّبة والسّاحرة بنظافتها وألقها، الى جبالها المترامية والمخضرّة التي هوّنت علينا حرارة الطقس والرطوبة العالية التي منعتني شخصيا من بلوغ قمّة السور في الجزء الذي سلكناه.
بمجرّد وصولنا الى الى سفح الجبل الممتد عليه الجزء من السور الذي سنسلكه حيث توجد المقاهي والمحلات التجارية المعدة لبيع الهدايا التذكارية وبعض المواد الغذائية انبرى كل منا يبحث عن مرافق له يشاركه متعة استكشاف الطريق الطويل والحاد الذي يفصل سفح الجبل عن قمّته حيث يمتدّ على طوله سور الصين في رحلة الألف خطوة أو تزيد.
كان الطريق وعرا والدرجات المشيّدة من الحجارة الكلسية الصامدة المُحفّفة بطريقة دقيقة احيانا و اعتباطية حينا آخر -مما جعل من بعض الدرجات تمثل خطرا محدقا لسالكيها خصوصا من الأطفال أو كبار السن نظرا لارتفاعها البالغ وبالأخص أثناء عملية النزول- ممّا تطلّب منا اتخاذ درجة كبيرة من اليقظة. بيد أن هذا المسار الطويل الذي قطعناه في أكثر من ساعة ذهابا تخللته بعض المباني التي اتخذت شكل الغرف المحصّنة كانت تستخدم في ما مضى كابراج للمراقبة ضمن المشروع الدفاعي المتكامل الذي تأسس عليه هذا السور ثم تحوّلت فيما بعد وفي إطار استغلال هذا المنجز الحضاري كمسلك سياحي، الى مستقرّ مؤقّت لأخذ قسط من الراحة ومراقبة الأجزاء السفلية من الجبل الواقع عليه السور وكذلك للاحتماء من أشعة الشمس الحارقة التي كان لها الأثر الكبير في إجبار العديد من متسلّقي السور من الصينيين ومن جنسيات أخرى عديدة إلى العودة أدراجهم. حيث أعرب لنا البعض ممن قابلناهم خصوصا من جنسيات عربية عن انزعاجهم ليس من حرارة الطقس ولكن من فرط الرطوبة العالية جدا ومن خطورة أشعة الشمس التي لها تأثير مباشر وكبير على البشرة. الأمر الذي حدا بالعديد من الزوار وخصوصا من الصينيين الذين خبروا مثل هذه المواقف الى ارتداء ملابس مميّزة تحول بين أجسامهم وبين أشعة الشمس وتحديدا أولئك الراغبين في بلوغ قمة الجبل حيث تكون الشمس أكثر خطورة بأشعّتها فوق البنفسجية.
لئن كان الصعود إلى القمّة من أصعب الأمور، لم يكن النزول منها، والحال أن القوى قد أُنهٍكت ، بأحسن من ذلك غير أن رغبة الاكتشاف الجامحة وبلوغ هدف قد ارتسم الى أن تحقّق، هوّن كل صعب وجعل كل عذاب مستعذَب.
(يتبع)
المصادر : *https://arabic.beijing.gov.cn/beijinginfo/culture/culturaltreasures/sevenculture/202401/t20240109_3529954.html https://etichotels.com/ar/journal/the-temple-of-heaven-beijings-imperial-altar/** *** الآية 14 من سورة الرعد