شيماء الصنهاجي-شهدت أيام قرطاج الموسيقية عروضا حملت بصمة الجيل الجديد من الفنانين التونسيين، حيث قدّم قيس فريحات وزياد بڤا تجربتين موسيقيتين تعكسان رؤى مختلفة، إحداهما تنساب عبر الألحان الصرفة والأخرى تجسد الحرية بالكلمة والصوت. وبين العرضين تجلت ملامح الانفتاح والتجديد على مدارس موسيقية غير تقليدية.
“ARGIOPE”: حين تصبح الموسيقى أداة للمقاومة والنضال
قدّم الفنان التونسي المقيم في بلجيكا، قيس فريحات، عرضه “أرجيوب” وهو مشروع موسيقي يعتمد على العزف الخالص دون غناء، حيث اجتمعت آلات الغيتار، البيانو، السكسوفون، والباتري ضمن توليفة متناغمة صنعت تجربة موسيقية تأملية.
البعد الرمزي في هذا العرض هو ما صنع نقطة التميّز والاختلاف، إذ لم تكن الموسيقى وحدها الحاضرة بل حمل العرض أيضا رسالةً نضالية، ارتدى قيس فريحات الكوفية الفلسطينية طيلة العرض مؤكدًا أنّ “الفن مقاومة” وداعيا إلى وجوب إبقاء القضية الفلسطينية حيّة في الذاكرة الجماعية.
وقد لقي هذا الطرح تفاعلا كبيرًا من الجمهور الذي وجد نفسه جزءًا من لحظة فنية تزاوج بين الحس الموسيقي و البعد الإنساني.
وتميّز العازفون في الفرقة بإتقانهم للأداء الفردي والجماعي، حيث تألق كل منهم في عزفه على آلته الموسيقية دون أن يطغى أحدهما على الآخر، ما خلق تناغما جعل الموسيقى تروي حكايتها الخاصة بعيدا عن الكلمات.
FREE : موسيقى تتحرر من القيود
أما زياد بڤا فقد اختار أن يعبر بالكلمة والصوت عن مفهوم الحريّة مقدما عرضه الذي ضم مجموعة من الأغاني أبرزها “حر” والتي حملت اسم المشروع ذاته، رغم أنّ العرض جاء بأسلوب السولو، إلا أن التفاعل الجماهيري الكبير عوّض غياب المجموعة، حيث رافقه خلال عرضه العزف “سام بن جميع” مضيفا بُعدا موسيقيًا عزّز من قوّة الأداء.
وافتتح زياد عرضه بأغنية “كسرولي جناحي” ثم تلاها بأغنية “في بالي”، والتي جاءت كرد على سابقتها، حيث تعكس كلماتها فكرة النهوض مجددا بعد الانكسار واستعادة الأمل رغم التحديات والعراقيل، ومن بين المقاطع التي لاقت صدى واسعًا لدى الجمهور: ” نغزر لبعيد، نغزرلي وأنا رابح” كلمات تحمل في طياتها رسالة عن الإصرار والمضي قدمًا رغم العوائق، وكأنها تلخيص لمسار الفنان نفسه، أو حتى انعكاس لحالة عامة من البحث عن الحريّة والتحقق الشخصي، جاءت هذه الجملة وكأنها نشيد للتحرر حيث امتزجت بإيقاع نابض جعلتها تتردد في أرجاء القاعة كما لو كانت شعارًا للحظة جماعية من الانسجام التام بين الفنان وجمهوره.
كان التفاعل الجماهيري مع العرض استثنائيا، إذ لم يكتفِ الحاضرون بالاستماع بل طالبوا زياد بإعادة أغنية “في بالي” في نهاية العرض، وهو ما استجاب له، مقدما نسخة أكثر إحساسا، وكأن الأغنية اكتسبت في لحظتها معنى جديدًا، أكثر عمقا وحميمية.
الموسيقى لغة تتجاوز الكلمات
بين التجريد الموسيقي في “أرجيوب” والتعبير الصريح في “حرّ” حمل العرضان مقاربتين متناقضتين ولكنهما متكاملتان حيث التقى الحس الجمالي بالرسائل العميقة، والتجريب الموسيقي بالتفاعل الجماهيري، فقد كان كل عرض بمثابة نافذة تفتح تجربة فريدة تعكس البحث الدائم عن أشكال جديدة للتعبير الفني.
لم يكن حضور الجمهور وحده لافتا، بل شهد عرض “حر” شخصيات بارزة مثل الفنانة درصاف حمداني مديرة مهرجان أيام قرطاج الموسيقية مما يؤكد على أهمية هذه التجارب ضمن المشهد الموسيقي التونسي الحديث.
في سياق يبحث فيه الفنانون عن لغات جديدة للحوار مع جمهورهم، تأتي عروض مثل عروض قيس فريحات وزياد بڤا، لتأكد أن الموسيقى ليست مجرد وسيلة للترفيه بل مساحة للتفكير، والمقاومة، والبحث عن الذات في زمن لا تزال فيه الأصوات الحرّة تجد طريقها رغم كل القيود.