ليست كلّ العروض متشابهة، بعضها يأتي ليملأ جدول المهرجانات، وبعضها يأتي ليترك أثرا في الذاكرة على غرار عرض الفنان المصري “tul8t” (تو لييت) على ركح مهرجان دقة الدولي في دورته التاسعة والأربعين.
على الركح الأثري أطلت المجموعة الموسيقية موشحة بأقنعة لا تبرز منها إلا عيون العازفين الذين تماهوا مع آلاتهم الموسيقية قبل أن يلتحق بهم “تولييت” وبيده وشاح ملون زين به الميكروفون.
بكلمات مزجت بين اللهجة المصرية واللهجة التونسية تحدث “تولييت”إلى جمهوره الذي تكبد عناء التنقل إلى دقة قبل أن يغني على إيقاع موسيقى يتماهى فيه الراب والهيبهوب والآر آند بي والريغي والفلامنكو والنغمات الشرقية وغيرها من التلوينات الموسيقية.
كثير من الموسيقى ..
رغم أن العرض لم يدم لأكثر من ساعة إلا أن المسرح الأثري لدقة صار على وقعه مساحة تناثرت فيها أنماط موسيقية مختلفة دفعة واحدة وانهمرت فيها كلمات عن الحب والحنين والذاكرة والشجن.
الساعة التي قضاها تولييت على الركح لا تخضع للقياس الزمني المنطقي، إذ أنها تحاكي رحلة في ذاكرة الفنان الذي مد يده إلى خانة الأغاني المحببة لقلبه وجال في مدونته القديمة قبل أن يعانق جديده ويغازل ما بينهما جمهوره.
جاء “تو لييت” لتونس محمّلًا بتجربة فنية لا تشبه غيرها إذ لا يكتفي بأن يخلق تجربة غنائية فريدة بل يسعى لأن يُربك، أن يفتح الطريق أمام أسئلة كثيرة، أغانيه ليست ألحانا وكلمات، بل زاوية نظر للعالم، انحياز للجانب الهش في كل إنسان.
حينما يغني “تولييت” خاصة أغانيه المحاطة غشاء من الحزن يبدو وكأنه يروي قصة خفية عن عاشق يخبئ صوته في قلبه، وكأن كل أغنية استرجاع لأحلام وهواجس مؤجلة أو لندبات لم تُشف بعد.
وحينما يغني عن الحب لا ينزع عنه حالات الانكسار يرويه كما هو على سجيته ويواصل صوته البحث عن ذاته في المدى والتفتيش عن الضوء داخل العتمة مستندا إلى تنويعات موسيقية يرتب على وقعها مشاعره على مهل.
غناؤه ليس ناعما بل مشوب بصلابة العاطفة الصادقة والبوح، لا يخضع لترتيب زمني واضح، يقطف اللحظات ويقدمها بلا تكلف منتهجا فلسفة تنبع من فهم عميق للهشاشة الإنسانية.
“تولييت” بما هو منبع لأغانيه يشبهنا في وجعنا، وفي مرحنا، وفي خيباتنا لا يؤمن بالتجميل الكاذب، ولا بالإبهار الزائف ويرفض أن يُختزل في صورة أو تصنيف ويعمّد فنه بالتناقض فهو بسيط وعميق في الآن ذاته.
أقنعة ووشاح ملون وكوفية فلسطينية..
على ركح دقة، بدا “تو لييت” والمجموعة الموسيقية المرافقة له كما لو أنّهم يُعيدون اختراع مفهوم “النجومية”، لا أحد يعرف هوياتهم ولا يظهر من وجوههم إلا أعينهم وكأنهم يؤمنون بقدرة العين على التواصل، ولكن لهم قاعدة جماهيرية تتجاوز حدود مصر.
كل الأقنعة متشابهة مطرزة بخيوط بيضاء لا تظهر إلا العيون مع استثناء الفم لتولييت ليتمكن من الغناء، تغويك باكتشاف كافة تفاصيل الوجوه من ورائها ولكنها أيضا تقحمك في فلسفة الغموض والمجهول فتستسلم للنغمات والإيقاعات.
من رمزية الأقنعة إلى رمزية الوشاح الذي زين به الميكروفون وعانقه كما تعانق اليد ذاكرة بعيدة، يثير مزيدا من الأسئلة عن المعاني، فالوشاح الملون مفتاح سري ربما لبوابة الطفولة أو للحب الأول أو لحنين مزمن.
والوشاح هنا، ليس مجرد اكسسوار أو تفصيل بصري، هو أيضا وجه آخر للأقنعة؛ هو قناع يتحدى النسيان له ملمس الحنان (لمسته في حديث خاطف مع مدير أعمال تولييت) وملامح الطفولة، كأنه هدية من يد إمرأة بلغ بها الكبر عتيا، أو أثر من خزانة امرأة تعني له الكثير لعلها أمه أو جدته.
هذا الوشاح قد يكون رمزا لامرأة ربما علّمته أن الصوت لا يكتمل دون ذاكرة، وأن الغناء، في جوهره، رسالة إلى غائب نحبّه، ونريد أن يسمعنا، لم يظهر “تو لييت” بالوردة الحمراء التي ما انفكت ترافقه ولكنه استحضر كل الألوان في الوشاح.
وفي لحظة بين أغنيتين، رفع “تولييت” الكوفية الفلسطينية ولفّها حول رقبته وهتف ” free free Palestine” (حرة حرة فلسطين ) في حركة تترجم الانحياز لفلسطين ورفض المجازر المستمرة في غزة.
هتافه ارتفع في سماء دقة والتحم مع هتافات الجمهور اللذي بدا وكأنه ينتظر الحديث عن فلسطين التي كانت ومازالت البوصلة وأم البدايات وأم النهايات وتعالت صرخات الحرية في مدارج دقة الأثرية.
تفاصيل كثيرة طبعت عرض “تولييت” الذي غنى فيه “ليه بنخبي ومش بنقول” و”قسم شكاوي” و”حبيبي ليه” و”ما تيجي أعدي عليكي” و”بقيت وحيد” و”مااحلاكي” وطرزه بأكثر من رمزية.
وفي ختام العرض حين انطفأت الأضواء، ظلت أشياء كثيرة عالقة على الركح : صدى صوت محمل بالعواطف، ظلال ابتسامات مجهولة، ألوان وشاح مفعم بالأسرار، وتفاصيل كوفية تصدح بالمقاومة وفيض من الموسيقى.