في قلبه ذاكرة، وفي رأسه ثورة نغمية لا تشبه إلا إصراره على الانغماس في التراث وتفكيكه وإعادة صياغته بشاكلة تترسخ معها جذورها في أرضه وبيئته وتمتد أجنحته لتتخطى كل الحدود وما وراءها.
هو “عمار 808″،سفيان بن يوسف الذي يختزل كل زخم العناق بين الفنان والآلات الموسيقية، بين المزود والرولاند وبين جنوب آسيا وشمال إفريقيا، بين كل التجارب التي طبعت مسيرة فنان مختلف منذ بداياته.
موسيقاه تشبهنا ولكنها متمايزة عن السائد، فهي ليست ظلا لصوت سبق، بل هي امتداد لموسيقى المزود التي يوشحها بالموسيقى الالكترونية دون أن يفقدها كنهها، ربما لأجل ذلك يراه الكثير “عرابا للموسيقى البديلة”.
منذ أول ألبوماته، كان عمار 808 يحفر في التراث، لا يستنسخه بغاية تحنيطه بل يلتحم بكل تفاصيله ويفجر خباياه ويقتنص من الذاكرة أصواتا يحولها إلى تجربة سمعية تتجاوز الجغرافيا.
عمار 808 يشكل إيقاعات جديدة للمزود يجازف وهو يعبر به في مسارات الالكترو يوشحه بالأضواء المتراقصة فيولد من جديد أكثر تمردا وأشد تجذرا في بيئته وهويته.
لفنان المقيم بالدانمارك يعود بعمل فني جديد بعنوان “Club Tounsi”، يحاكي الأصوات القادمة من عمق الأزقة، تلك الأصوات التي تسري في الأرض غير عابئة بالقيود ولا الحدود، تلك الأصوات التي تحمل بعضا من التاريخ والجغرافيا والحضارة والإنسانية والفن.
في هذا الألبوم لا يسعى عمار 808 لتكريم المزود بقدر ما يعري جوهره الزاخر بالحكايات ويعيد إنتاجه بعد أن نزع عنه كل مسحات النمطية ليفضي إلى ثماني مقطوعات تساير العبور من الفضاءات الضيقة للمزود إلى العالم الرحب.
هو العبور من العرس إلى الركح، من الأجساد الراقصة إلى الآذان الصاغية المقاومة، عبور يتجلى بين الإيقاعات المتسارعة التي تتسرب منها أصوات من عمق الحنجرة التونسية، تهتف، وتنوح، وتلعن، وتُغنّي دفعة واحدة.
وعبر ثلاث فيديو كليبات، يُجسّد عمار 808 ما لا يُقال عن المزود بما هو حالة سياسية واجتماعية وذاكرة صوتية لحيوات ظلت أسيرة التهميش والنسيان.
على إيقاع موسيقى تخزّن صدى النوبات، والبارود، وزغاريد الأعراس الشعبية في ثناياها، يزرع المزود في تربة جديدة، لا تجفّ فيها الذاكرة وتتصدر فيها أصوات النساء الواجهة.
في تمرد على فكرة التراث الذي يبقى سجين المتاحف وفكرة البحث عن الاعتراف من الآخر، يصدر الهوية التونسية كما يراها محلية ضاربة في التاريخ وحالمة تهز المسارح العالمية وتجعل من الهامش مركزا.
وفي الأثناء يغدو المزود وسيلة للتفكّر في علاقة الجسد بالصوت والذاكرة، الجسد الذي لا يرقص ليستعرض بل ليتذكر، فحين يعلو الإيقاع، لا تملك أقدامك إلا أن تستجيب، وكأن في داخلك ذاكرة وراثية للرقص.