أعمدة أثرية ثابتة وأمواج تهتز بين تجاويفها، مشهدية ترشح جمالية توغل بالمشاهد في ثنايا فيلم “ڨلب حجر” للمخرج نضال شطا قبل أن يصدح صوت أنثوي ليروي حكاية معمدة بالوجع..
على إيقاع البوح تتخذ الجمالية بعدا آخرا وتتفرع إلى مسارات تسكنها البشاعة والقبح وتبدو الأعمدة بمثابة حجارة جاثمة على الصدور ويغدو الموج أنفاسا غاضبة تلاحق الخلاص.
وضعية نفسية وذهنية مخصوصة تحاوط الحس والحواس وتدغدغ الذاكرة والوجدان حتى تخلق حالة من الخدر تقحمك غصبا عنك في تفاصيل القصة التي تتأرجح بين غم الصمت ونشوة الألم.
يظهر الأمر في الوهلة الأولى هينا وتنساب الأحداث ويتكثف على أعتابها العنف والوجع حتى تصبح في لحظة ما مستفزة جدا ومربكة جدا حد الشعور أنك عالق بين الأعمدة الأثرية التي طالعتك في البدء فيما تنفضك الأمواج.
وكلما تسربت الأحداث الأكثر اتضحت معالم الشخصيات التي تبدي أقل مما تُخفي فتمنحك متعة الانغماس في عوالمها والتوهان في خباياها التي جعلتها تظهر على ماهي عليه من توليفة تصدرها البعد النفسي.
أحداث تنزف عنفا يتخذ تمظهرات مختلفة جسدي ونفسي ورمزي وجنسي واقتصادي ويتراكم على امتداد السيناريو الذي خطته أنامل صوفيا حواص التي تجيد حياكة الألم وتطريز الصمت.
صوفيا حواص التي استلهمت الحكاية من قصة حقيقية جدت في سنة واحد وتسعين وتسعمائة وألف شكلت فضاء رمزيا تتزاحم فيها شخصيات مارقة عن التصنيفات داخل مبنى قديم مهترئ.
على شاطئ البحر في ركن معزول يطل المنزل الذي يحاكي حيوات سكانه الممزقة بين مسارات الواقع وتشي تفاصيله بالعناء والاضطراب وتتسلل من بين زواياه أصوات خافتة تحيل إلى حكايات مثقلة بالوجع.
وسط كل ما سبق تتراءى عيون تقف في منطقة وسطى بين الشرارة والانطفاء وتخفي وراءها عواصف لن تهدأ، عيون “ملاك” (ريم الحيوني)، إمرأة تحاول فهم العالم دون إلحاح على تغييره.
“ملاك” لها من اسمها نصيب فعلاقاتها متفرعة مع كل الجيران وابتسامتها المتقدة تقارع أوجه العزلة والخذلان والعنف التي يعيشها كل فرد في المبنى؛ على غرار “لطفي” (عبد المنعم شويات) الذي يتقن توليد الذكورية المقيتة.
وبين الشخصيات يظهر “خالد” (لمين بلخوجة) الشاب المثلي الراكض وراء حب مستحيل و”منى” (ميساء الوسلاتي) التي تقدم جسدها قربانا للبقاء، و”جيهان” (أميمة البحري) التي تزين وجهها بسمرة الأرض واهتز قلبها على وقع العنصرية.
شخصيات فسيفسائية تشكلت كياناتها من الوجع والصمت الذي ترجمه الأداء غير اللفظي لشخصية “فاطمة” (بسمة العشي) زوجة “لطفي” التي تقيأت أكوام العنف المسلط عليها في اللحظة الخطأ، فيما صبت “عزة” (فاطمة الفالحي” جام غضبها في الملاكمة.
كل الممثلين في الفيلم تقمصوا أدوارهم بصدق وسلاسة وكان لكل منهم خطه الدرامي الذي يحرك خيوط السرد التي تهتز تباعا حتى تتشكل الرجة التي تستوي فيها الحياة بالموت والألم بالنشوة.
هذه الشخصيات التي تسيل هواجسها على أرضيات المبنى وجدرانه وأسقفه تلتقي عند “منير” (محمد الداهش) بواب المبنى الذي يحمل داخله بركانا من التناقضات سينفجر في لحظة حاسمة يتحول فيها الصمت المفروض إلى بركة صغيرة من الدم.
كل شخصية تبتلع أوجاعها على جرعات فتتراكم الصراعات داخلها وتنشطر إلى جندرية وطبقية وهووية ويغمرها الكلس وسط استحالة الصراخ فيما تزداد الحيوات بهتان وخذلانا.
على إيقاع بنية درامية شبه مغلقة ينتفي العالم الخارجي وتدور كل الأحداث داخل المبنى في خيار غير عبثي يتحول معه المكان إلى شخصية تراقب وتشهد وتحاصر وتخنق وتستفز وتربك وتزعزع.
هذه البنية صبغت الفيلم بمسحة خانقة من جنس حيوات شخوصه التي تبدو باهتة مطرزة بالخيبات ولكنها سبيل لملامسة أعماقها النفسية والاجتماعية دون تشتيت، ووسط كل الصراعات تواجه “ملاك” الواقع بمزيج من الدعابة والعاطفة وشيء من السوريالية ولكن أيضا بقلق جاثم على وجهها.
سيل من الرمزيات ينهمر في ثنايا هذه البنية انطلاقا من العنوان “ڨلب حجر” التعبيرة العامية التي تحيل إلى القسوة، إلى المجازفة والتهور، إلى غياب العاطفة بشكل يُصلب معه القلب ويعجز عن الخفقان حينما يبدو ذلك حتميا.
مفردة ” ڨلب” تحيل إلى كل تلك المسافات الفاصلة بين الحياة والموت ، وأما مفردة “حجر” فهي ما تبقى من أثر السنين، وكل تكلس العقليات، والعجز، هي كل الشخصيات في انفعالاتها التي تفوق قدرتها على التحمل.
وللصمت في الفيلم رمزياته أيضا فكل الصراخ تهافت دفعة واحدة حينما تحول صمت “منير” البواب إلى صخب يهز الروح دون أن يصم الآذان ورحل وهو يعرف كل شيء دون أن يقول أي شيء في اختزال لصمت المجتمع وتطبيعه مع مختلف أشكال العنف والتهميش.
باستثناء نوبات الصراخ النادرة التي تنتاب “لطفي”، يغرق الفيلم في الصمت، لا يصرخ وإنما يهمس بتفاصيل جارحة في مشهدية تشبه الوقوف أمام مرآة تغشاها الشقوق وتتبع مساراتنا في أجزائها السليمة.
وكلما وقعت أعيننا على أجسادنا العارية ووجوهنا المثقلة نتساءل عن ماهيتنا، عما نخفيه، عما نعجز عن تغييره وتتقاطع تمثلاتنا مع تمثلات آخرين وتتماهى هواجسنا حتى تصير امتدادا لعلل مجتمع ومعاناة وطن.
وعبر “”ڨلب حجر” لا يصور المخرج نضال شطا قصة شخصيات تعيش في مبنى قديم فحسب وإنما يخلق عالما باردا تغشاه الشقوق والتصدعات تختزن جدرانه لحظات الألم الطويلة وتشهد على العلاقات المتشابكة والمعقدة.
البرود يتجاوز المكان ويمتد إلى أطرافك فتتحجر على وقع أفعال مربكة وردود أفعال أشد إرباك والشقوق تتسع حتى تخال أنها ستبتلعك ولكن موسيقى دحر التنميط تربت على قلبك المضطرب.
وفي ذروة العتمة يلوح بصيص من النور يغويك بملاحقته حيث تنشد الشخصيات الخلاص كل منها على طريقتها وحيث تستمد البذاءة مشروعيتها من الوحشية التي تستتر أحيانا وراء ابتسامة.
في نقطة واحدة لا مفر منها تلتقي كل الأرواح الممزقة وتخط شخصيات أخرى بصمتها في عالم الفيلم الذي لا يحتكم إلى مهرب من الذاكرة والصراع كالطفلة “ليليا” (ياسمين الحكيري) وعون الأمن (لطفي العبدلي) الذي حمل القصة إلى ثنايا أخرى، وكل الشخصيات التي ظهرت في دروب القصة.
وعلى تخوم العلاقات بين الشخصيات يتكثف تأثير المكان ويعد المبنى المهدم والمتصدع امتدادا للنفوس المحطمة وحالة العزلة المحاوطة بها حينما تجتمع فيه ليبدو أكثر من مجرد مكان.
وعلى نسق إضاءة باهتة تعم المكان وتغمره تتولد الكآبة وتتبدى مسحة من الخوف والتوتر وتتحرك الكاميرا في المكان الضيق وقلما تحيد إلى الشاطئ أو إلى البحر الذي تصوره في لقطات كثيرة بلا بدء ولا منتهى وكأنه نقيض لحدود المبنى المتهالك.
لقطات قريبة تصورها الكاميرا توغل في تفاصيل الأوجه المرهقة والزوايا والأركان المتداعية للفوضى وتجعل الفضاء أكثر ضيقا وكلما تعرت مشاعر الشخصيات تشعر أنت المشاهد كأنك جزء من السجن النفسي.
الظلال هي الأخرى تتخذ مكانا ومكانة في الفيلم وتفضح الانقسام بين الظاهر والباطن وتشكل كل زاوية مظلمة ركنا قصيا من الذوات المتكسّرة لا تعرف كنهه إلا إذا استسلمت لأدق التفاصيل في الفيلم.
نظرات تائهة، حركات متوترة، عواطف مكبوتة وصوت يراوح بين الحزن والعجز والتراجيديا وانفعالات أخرى لا تقدر الكلمات على ترجمتها، حتى أشد الكلمات بذاءة تصبح وديعة وحتى الصراخ يتراجع لحساب الصمت.
وفي “ڨلب حجر” تتظافر كل عناصر الفيلم من سيناريو وكاستينغ وإدارة ممثل وإضاءة وموسيقى ومؤثرات بصرية لتروي هشاشة الإنسان في مواجهة عالم قاس وجائر.
وفي المسافة الممتدة بين الهشاشة والقسوة يتجاوز الصمت في الفيلم الخيارات الفني ليكون انعكاسا لحالة مجتمعية طاغية يتحول على أعتابها العنف إلى حدث عابر وتمضي فيها الذوات المكسورة بلا سند.