بعد أسبوع من انطلاقها من تونس في اتجاه معبر رفح، تشد قافلة الصمود طريق العودة بعد أن استحال عبورها نحو غزة لأسباب واعتباراتميدانية وسياسية معقدة ومتشابكة ومخيّبة.
حين قررت القافلة العودة على الطريق، سارت عكس الخرائط بعيدا عن مسارات الهزائم والخيبات، لم تلامس أقدام المشاركين أقرب نقطة إلى غزة لكنها وصلت إلى كل موشوم بالاحلام المستحيلة وكل باحث عن المعنى وسط ضجيج الخذلان وكل من كاد ينسى كيفية الحلم الجماعي.
في زمن اختنقت فيه الهتافات، وارتبك فيه الحالمون وتعاظم العجز والقهر، تجلت قافلة الصمود لتُعيد إلينا المعنى الذي كدنا نفقده: معنى أن نحلم معا، ونحمل قضية لا تسقط بالتقادم، ونستعيد خيط النور وسط نفق العتمة.
والمتأمل في تفاصيل خروج القافلة سيلحظ أن الأمر بعيد كل البعد عن الاستعراض وأنه لا يتعلق بتسجيل نقطة رمزية عابرة، هو مانفستو حرية ومقاومة، إعلان رفض للإبادة في غزة، صرخة في وجه التطبيع والنسيان.
في مرورها بين المدن جمعت أطراف الطريق قلوبا لم تذبل وعيونا تؤمن بقدرة الإنسان على التحدي، على التضامن، على قول “لا” حينما يهيمن الصمت.
فجرا، غادرت الجموع بيوتها، لا بدعوات حزبية، ولا نداءات سياسية، خرج الكل لأن الإنسانية داخلهم لم تمت، لأنهم يعون أن فلسطين اختبار مواقف وتذكير بأن الحرية ليست ترفا.
في الطريق التي امتدت من مدن جزائرية إلى مدن تونسية فمدن ليبية حتى انقطع المسار على بوابة سرت، كانت المشاهد تشبه القصائد ؛ رجل يُهدي مظلته لأهل غزة، أصوات تغني للحرية والمقاومة، صلوات في الخلاء، مختلفون وحدتهم فلسطين فساروا وكأنهم يعرفون الطريق نحو غزة.
أمل على الوجوه، شمس مستقرة في العيون، عمر مطوي في الحقائب الصغيرة، الجميع يمضي جنبا إلى جنب، كان الحلم يعبر الجغرافيا بلا تصريح مرور، كان القلب المغاربي العربي ينبض على إيقاع واحد، كانت فلسطين تجمع الكل لا شعارا بل قَدَرا مشتركا ومحتوما.
وعند إيقاف بعض المشاركين في القافلة من قبل القوات المتحكمة في شرق ليبيا، لم تتصدع القافلة بل رابطت وتجمّعت حول موقوفيها وتشبثت كما تفعل الجذور مع تربتها ولم يسأل أحد عن جنسية، لم يفرّق أحد بين تونسي أو جزائري أو ليبي أو سوداني، واتفق الكل على ألا يغادروا إلا جميعا.
في العراء وقفت القافلة صامدة كأشجار الزيتون، رافضة أن تمضي دونهم، مردّدة بأكثر من لغة أن لا مساومة على الحرية، مشهد من ضمن حكايات بعضها لم يرو بعد في انتظار عودة المشاركين في القافلة.
لم تتجاوز القافلة ماديا شرق ليبيا لكن مداها بلغ غزة وفتحت في كل المؤمنين بالحق الفلسطيني نحو ما أبعد من الحدود ؛ الوحدة والمشترك وسالت معها الدموع كمطر أول يسكّن الوجع ويُنبت المعنى.
بعض الحكايات تروى وبعضها الآخر يعاش فحسب ولكنه يترك أثره في الأصوات والقلوب الحاملة للقضية الفلسطينية ويحسب للقافلة أنها أعادت ترتيب الأولويات في عالم مضطرب وأثبتت أن فلسطين البوصلة حينما تتلاشى الدروب.
وفي انتظار استقبال القافلة في نقطة انطلاقها، تونس، تحيا فلسطين، ويحيا الحلم الجماعي الذي لا يحتاج أذون عبور نحو غزة.
*صورة للمصور الصحفي ياسين القايدي