بقلم الكاتبة والروائية رانيا الحمامي
في زمن تتسارع فيه التحولات التكنولوجية وتتبدل فيه مفاهيم الإعلام، يقدم لنا الدكتور الصحراوي قمعون كتاب «تاريخ الكتابة الصحفية من الفصاحة إلى الكتابة الخوارزمية» كمساهمة علمية جريئة في استعادة الوعي بجذور الصحافة وفهم امتداداتها نحو المستقبل الرقمي. لا يكتفي الكتاب بتتبع مسارات الكتابة الإخبارية عبر العصور، بل يعيد الاعتبار للدور الريادي للعرب في ترسيخ أسس الإعلام، من خلال مقارنة منهجية بين الوسائل النقل الاخبارية الضاربة قدما في التاريخ العربي والوسائل والأدوات الرقمية الحديثة. كما يستعرض مساهمات أعلام الصحافة والفكر العربي في ترسيخ مبادئ العمل الصحفي، من أمثال عبد الحميد الكاتب والجاحظ وابن قتيبة وابن خلدون وابن حزم وابن بطوطة وابن المقفع والتوحيدي والمسعودي والاصفهاني والمعري والهمذاني، وغيرهم.
يفتتح الفصل الأول بعرض لأصول الكتابة النثرية في الحضارة العربية الإسلامية، مسلطا الضوء على أثر الترجمة والاحتكاك الحضاري في إثراء المصطلحات، ودور الشعر والخطابة في التعبير الجماهيري، ومكانة البلاغة والفصاحة في تشكيل الوعي الجمعي. كما يناقش دور المفكرين العرب في ترسيخ تقاليد تعبيرية تقارب التحليل الصحفي والنقد الإعلامي كما نعرفه اليوم. أما الفصل الثاني، فيتناول جذور الكتابة الإخبارية عند العرب، من خلال استعراض فنون التوثيق والرواية التاريخية، وتحليل أساليب نقل الأخبار، ودور السلطة السياسية والدينية في التأثير على بنية المعلومة، إضافة إلى أثر اللغة والأدب في صياغة المحتوى الإخباري.
ويخصص الفصل الثالث لمناقشة تحولات الكتابة الصحفية في العصر الرقمي، متتبعًا انتقالها من الطباعة الورقية إلى الشاشات، ومن الكلمة المدونة إلى النصوص الخوارزمية. يتطرق الكتاب ايضا إلى التحديات التي فرضها الذكاء الاصطناعي، ومخاطر التضليل الإعلامي، وتحولات اللغة والأسلوب في البيئة الرقمية الجديدة.
ويعتبر الدكتور الصحراوي قمعون من خلال كتابه أن الفصاحة العربية هي البذرة الأولى للصحافة حيث يعود إلى الجذور، أين كانت الأسواق الأدبية مثل سوق عكاظ، ومجالس الشعر والبلاغة، بمثابة المنصات الأولى للإعلام الشفهي تتشابه مع مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الاذاعية والرقمية الحديثة. في هذه الفضاءات، لم يكن التواصل يقتصر على نقل الخبر، بل كان يصحبه التحليل والنقد والتأثير، وهي وظائف تُعد اليوم من ركائز العمل الصحفي المهني. لقد مارس الشعراء والخطباء العرب أدوارا تماثل ما يقدّمه الصحفيون والمحللون المعاصرون، مما يجعل من هذه الممارسات النواة الحقيقية لصحافة الرأي والتعليق السياسي والثقافي.
كما يركز المؤلف على التحولات الكبرى من الطباعة إلى الإعلام الرقمي فيربط بين هذه البدايات العربية وظهور الطباعة في أوروبا في القرن الخامس عشر، التي دشنت ثورة معرفية هائلة، كان من نتائجها تحرير الكلمة وانتشار الصحف والكتب، ثم عصر الإذاعة والتلفزيون في القرن العشرين، لتتوسع دائرة التأثير الإعلامي ويصبح الاتصال الجماهيري أداة للهيمنة أو للتحرر ليدخل العالم مع بداية القرن الحادي والعشرين، مرحلة جديدة عنوانها الرقمنة والذكاء الاصطناعي. فيرى الدكتور الصحراوي قمعون ان الصحافة اصبحت اليوم مجالا مفتوحا أمام الأفراد لإنتاج المحتوى، مما قلب قواعد السيطرة الإعلامية، مشيرا ان هذا التحرر جاء مصحوبا بتحديات جديدة: من التلاعب بالمعلومات، إلى غياب الرقابة، وانتشار الأخبار الزائفة.
وفي مفارقة مدهشة، يستحضر المؤلف شخصية الجاحظ ليبيّن مدى تقاطع أفكاره مع معايير الصحافة الإلكترونية الحديثة. فقد شدد الجاحظ على وضوح التعبير، وتنظيم الأفكار، وجاذبية العنوان، والمصداقية، والاعتماد على مصادر موثوقة، مع الإيجاز دون تفريط في المعنى وهي المبادئ نفسها التي تقوم عليها خوارزميات المحتوى الرقمي اليوم. ومن خلال إعادة قراءة الجاحظ في هذا السياق يكشف الكاتب عن عبقرية عربية سبقت زمنها، ويؤكد أن كثيرا من قواعد الإعلام المعاصر لها جذور راسخة في تراثنا العربي، وليست وليدة الغرب كما يُتصور.
ففي ضوء هذا الربط التاريخي العميق، يدعو الكتاب إلى ضرورة التفاعل النقدي مع التحولات التكنولوجية، لا باعتبارها قطيعة مع الماضي، بل امتدادا لمسار طويل بدأ من الفصاحة والمناظرة معتبرا ان الصحافة في جوهرها هي فن إيصال المعنى وتشكيل الوعي، وهي مسؤولية لا يمكن أن توكل بالكامل إلى الآلة.
“تاريخ الكتابة الصحفية من الفصاحة إلى الكتابة الخوارزمية” ليس مجرد سجل تاريخي، بل دعوة ملحة لإعادة الاعتبار للهوية الإعلامية العربية، وتأسيس خطاب صحفي جديد يستلهم من الماضي قوته، ويواكب المستقبل بوعي نقدي. فبين الجاحظ والخوارزمي والصحافة الاكترونية والخوارزميات، بين عكاظ ووسائل التواصل الاجتماعي، هناك خيط ذهبي علينا الوعي به في زمن التسارع الرقمي.