يعتبر كتاب “محمد علي الطاهر : الشورى والقضية التونسية من خلال رسائله للشيخ عبد العزيز الثعالبي” لصاحبه الدكتور محمد مسعود ادريس، وهي مجموعة من الرسائل التي بعث بها الفلسطيني محمد علي الطاهر صاحب جريدة الشورى للزعيم والمفكر التونسي عبد العزيز الثعالبي، من المراجع الأساسية والمهمة للتأريخ لحقبة زمنية ولأحداث وطنية وعربية ودولية بشكل سلس ومشوّق.
لن يعسر على المتصفّح لهذا الكتاب، إدراك مدى ما بذل الكاتب من مجهود بحثي وتحقيقي حتى يتسنى له جمع هذا الكم الهائل من الرسائل الموجهة بين سنتي 1924 و1934 للشيخ عبد العزيز الثعالبي، أحد رموز الحركة الاصلاحية في تونس والوطن العربي ومؤسس الحزب الحر الدستوري ومؤلف كتاب تونس الشهيدة من قبل المفكر محمد علي الطاهر ابن مدينة نابلس الفلسطينية وصاحب إحدى أكبرالصحف التي كان مكتبها ” محل لقاء النخبة السياسية العربية الوافدة بمصر وكان مجلسا يجمع رجال النخبة العربية المقيمة بالقاهرة وصندوق بريد للعديد من الاتصالات”.
تعود علاقة الطاهر بالثعالبي حسب ما يوثقه الكاتب الى سنة 1924 تاريخ حلول الشيخ المصلح التونسي الى القاهرة. وتعتبر القضية الفلسطينية أم القضايا العربية في تلك الفترة العنصر الموحّد لأفكار الرجلين خصوصا لما لمسه الثعالبي من تحمّس لدى صاحب “الشورى” واندفاع واخلاص للقضية الفلسطينية “وما نبه اليه (الثعالبي) من قبل في الجرائد العربية حول الخطر الصهيوني ومطامع الاحتلال وانشاء كيان قومي صهيوني“.
ومن أجل ذلك فقد “عمل الشيخ الثعالبي على مساعد جريدة الشورى بالدعاية لها لأن في رواجها رواجا للقضيتين الفلسطينية والتونسية والعربية عموما لما كانت تنشره الشورى حول كل القضايا العربية الاسلامية“. ذلك أن هذه الصحيفة الرائدة التي منعت في أكثر من دولة عربية منها تونس وسوريا ولبنان والسودان وغيرها كانت تساند الدول العربية والإسلامية في “عديد المطالب لاستقلال شعوبها وفي مقدمة اهتماماتها كانت القضية الفلسطينية“.
فمطالب الشورى التي تم إيقاف إصدارها بعد ضغوطات من المستعمر البريطاني في أوت 1931 كانت متماهية مع أهداف الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي جاب العالم طولا وعرضا في سبيل نشر قيم الانعتاق والتحرر من الاستعمار وكذلك نشر القيم السمحة للدين الإسلامي في أوروبا وآسيا. ويرى الكاتب محمد مسعود إدريس أن صاحب الشورى محمد علي الطاهر الذي كان “صندوق بريد القضية التونسية فكان يتقبل الصحف التونسية ويرسلها للشيخ الثعالبي خلال اقامته بالعراق او حتى مسافرا فكانت تصله عندما كان باليمن وبالهند“، كان أمين سر القضية الفلسطينية وواثق صلة في أهم حلقات نضالها.
اذ كانت الشورى في وقت من الأوقات المرآة التي تعكس الواقع التونسي عبر كتابات وأخبار يتولى نقلها بتكليف من الشيخ الثعالبي العديد من الكتاب على غرار محي الدين القليبي ومصطفى بن شعبان وعلي كاهية وعمر بن قفصية. وبحسب الكاتب فقد كانت الشورى “تنشر ما لم تستطع الصحف التونسية أن تصدع به علنا وباللهجة والقوة المناسبتين“, ولعل المتصفّح للعديد من المقالات الواردة في ملاحق هذا المرجع الهام يدرك مدى المام هذه الصحيفة وحرصها على نقل الواقع المرير الذي مر به الشعب التونسي في ثلاثينات القرن الماضي.
وما يحسب للكاتب في هذا الصدد حرصه الشديد ودقته في تقديم هذه المقالات وتسهيل الوصول إليها عبر جداول مبيّنة لعناوين المقالات وتواريخ اصدارها مع ربطها بالسياق العام الذي صدرت خلاله. والمطّلع على هذه المقالات الشيقة يدرك مدى حرص “الشورى” على متابعة أمهات القضايا وأدق التفاصيل في علاقة بالأحداث الجارية ببلادنا ومنها “قضايا التجنيس ومنع الصحف من الصدور ومظالم الفرنسيين وزيف الإصلاحات المزعومة للمقيم العام وفساد العدلية ومحاولات دوس السيادة التونسية وأساليب البوليس في التعامل مع الأمن بتونس وفضح المتعاونين مع السلط الاستعمارية“.
وفي هذا الباب تجدر الاشارة الى ان العديد من المقالات الواردة في هذا الكتاب والتي تم نشرها بجريدة الشورى كانت كافية لبسط صورة واضحة عن الأحداث والوقائع بشكل جريء وفاضح للعديد من الممارسات والجرائم التي كانت ترتكب في حق التونسيين. من ذلك صدور العديد من المقالات بعناوين من قبيل “ماذا في تونس”، “تونس : مظالم جديدة”،”مظالم عجيبة في تونس”، “المظالم السوداء في تونس الخضراء”، “المظالم في تونس : مصادرة الحريات، تعطيل الصحف، النفي والابعاد” وغيرها من العناوين التي وثقت دون مواربة ولا خوف الوهن الذي بلغه نظام حكم البايات والسلطة المطلقة التي فرضتها السلطات الاستعمارية لبسط نفوذها وهيمنتها على الشعب التونسي.
إن المتأمل في الرسائل التي تم نشرها أو من خلال بعض المسودات التي تمثل ردودا لهذه الرسائل سيدرك حتما أن الروابط التي جمعت بين الرجلين متينة الى أبعد الحدود. اذ لم تتضمن هذه الرسائل ما هو رسمي فحسب في علاقة بالقضايا المشتركة فحسب بل تجاوزتها احيانا للحديث عن بعض التفاصيل الشخصية في حياة المرسل والمرسل إليه. وهو ما يترجم طبيعة العلاقة المتينة بينهما وما حملته هذه الرسائل من أدق التفاصيل عن هاتين الشخصيتين وعن المحيط الذي أثر فيهما وتأثر بهما و العلاقات الوطيدة التي كانت تجمعهما مع العديد من المفكرين والأدباء والصحفيين العرب مثل مصطفى عبد الرازق وداود بركات واميل خوري وعادل جبر ومحمد أمين الحسيني،مفتي القدس، ومحمد رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان وغيرهم من فطاحلة الفكر والسياسة. فأصبحت حينئذ هذه الرسائل في بعض الأحيان بمثابة كتابة في السيرة الذاتية. ولعل ما يحسب للكاتب هو انتقاؤه الدقيق لنوعية الرسائل ومضامينها وترتيبها بطريقة خلقت نوعا من الحبكة السردية جعلت من الإقبال على قراءتها ضربا من ضروب الشغف والنهم.
كما أن إثراء هذا المرجع العلمي الهام بصور وملاحق توثق لبعض الفترات التاريخية في حياة الشخصيات الوارد ذكرها أعطى نوعا من التوازن الاخراجي لهذا المؤَلّف الصادر في شهر ماي الفارط عن دار خريّف للنشر. اذ تضمّن الكتاب بالاضافة الى نسخ للرسائل صورا توثيقية جمعت محمد الطاهر بالعديد من الزعماء التونسيين على غرار الحبيب بورقيبة والدكتور احمد بن ميلاد ومحمد شنيق وغيرهم…
هذا الكتاب الذي جمع محتواه في 366 صفحة أستاذ التعليم العالي بجامعة تونس محمد مسعود إدريس قدم مادة دسمة وثرية ومصدر الهام للعديد من الدراسات والبحوث في محتويات هذه الرسائل ويعتبر أيضا محطة أخرى في رحلة بحث الكاتب في التفاصيل المتعلّقة بمراحل تاريخية في حياة الثعالبي وانجازاته. ولعل من بين أهم الاصدارات التي حملت توقيعه “الشيخ عبد العزيز الثعالبي والحركة الوطنية” وهو عمل مشترك مع الدكتور أحمد ميلاد ضمن سلسلة بحوث أشرف عليها المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون بيت الحكمة سنة 1991.
وللتذكير لمحمد مسعود إدريس، أستاذ للتعليم العالي في العلوم الثقافية وفنون الركح، العديد من الأعمال البحثية في المجال الفني مثل “دراسات في تاريخ المسرح التونسي (1881-1956)” وبيبليوغرافيا المسرح التونسي وذاكرة أيام قرطاج المسرحية وترجمة لكتاب “الأغاني التونسية” للصادق الرزقي. محمد مسعود إدريس هو مؤسس ومدير المهرجان الوطني للمسرح في دورته الاولى في الكاف سنة 2019.