بكل ما أوتين من براءة تهز أربع فتيات صغيرات مهد رضيعة في بهو المستشفى ويرددن “لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله”، تتعالى قهقهاتهن حتى تملأ الأثير وتتقد عيونهن حياة تتحدى الموت المتسرب من كل صوب في مشهدية تنكسر على أعتابها كل مفاتيح المنطق..
زهرات في أوج تفتحهن تواترت عليهن صور الموت وصار الاستشهاد سمة يومية يشكلن منها ألعابهن ويسخرن من المتفرجين جميعا وربما يحاكمن الساكتين والخاضعين والمطبعين وعرابي المجازر وربما يدربن أرواحهن الغضة على الموت.
هذا الفيديو الذي اقتنصه أحد الأطباء في مستشفى عج بالشهداء والجرحى وصار ملجأ للنازحين يربك المتأمل ويقحمه في تفاصيله ويزج به في دوامة من الحيرة فيستحيل التحليل المنطقي على تخوم لعبة فاصلة وواصلة بين الموت والحياة.
هذه المفارقات التقطها المسرحي والباحث في العلوم الثقافية حسام المسعدي في مداخلة بعنوان ” المسرح في شكله الأخير، قراءة في لعبة أنا شهيد لأطفال غزة” ضمن الندوة الفكرية “المسرح في زمن المقاومة” التي نظمها المسرح الوطني التونسي في إطار “المهرجان الوطني للمسرح الوطني – مواسم الإبداع” في دورته الأولى.
في قراءته للمشهد اللعبة، يقول المسعدي هي اللعبة الأخيرة داخل لعبة الحياة .. وسط القتل يولد فعل اللعب.. ماذا يمكن ان نفعل قبل الموت نلعب أو نبكي قبل أن يخط سبيلين للتحليل من منطلق كون اللعب أداة للتنفيس في مواجهة الموت وتفاعلا في حدود ظروفه أو ضربا من التوليد لحالة مسرحية يمكن أن تقبض عليها في جينات هذه اللعبة.
في قراءته لهذا المشهد المربك يشير إلى أن الأطفال يحاكون واقعهم، ينهلون من صوره في ضرب من التمثيل لواقع مازوم ومتأزم، لا شيء فيه غير الكارثة وما تبقى منها يؤسسه الأطفال بسخرية، دور الشهيد وعملية الدفن وما يتردد أثناء تشييع الشهداء، هي مسرحة للجنازات، وفق قوله.
وحينما يوغل في الشرح يحيل إلى أن هذه الحالة المسرحية ليست كغيرها إذ يقول ” نحن لسنا في حضرة نص وشخصيات وبناء درامي .. تنتفي عناصر المسرح ويتم تحويل المسرح واختزاله في شكل موجز وأخير.. هي لحظة مسرحية طارئة في زمن ما.. يأخذ الأطفال الصور والأصوات ويستعملون المسرح عبره ما يعيشون من أهوال”.
“نحن أمام المسرح في شكله الأخير، المسرح النقي.. عفوية وتلقائية وارتجال.. ضرب من القلق والارتباك حول ما يحصل هناك مسرح مبني على وقع الواقع وإيقاعه.. تحويل الكارثة إلى أثر.. هو اللعب يقصون به قصتهم ويعيدون بشكل لاواع المسرح إلى أصوله البدائية وتحدث اللعبة شرخا داخل السؤال عن هوية المسرح” يواصل حسام المسعدي تحليل “لعبة الشهيد” من زاوية مسرحية.
في سياق متصل يعتبر المسعدي أن هذه اللعبة تفضي إلى “المسرح في حالته الخام حيث عناصر الكارثة متممات للمشهد فضاء المستشفى أمام جمهور غير منتبه.. تمرد وخرق لكل الترتيبات والتنظيمات.. فالأطفال في حالة عصيان وجودي دون وعي منهم يتسلحون بالمسرح خوفا من الموت ومقاومة له في نفس الوقت”.
كما يقول ” هم يؤسسون كينونة جماعية جديدة ويحاولون فك هذا الحصار في رقص جنائزي بامتياز ويحولون المريع إلى الرائع ويعيدون الفن إلى مضامينه البدائية.. يلجؤون إلى اللعب حينما تستحيل الحياة”.
عن ندوة ” المسرح في زمن المقاومة”
“المسرح في زمن المقاومة” ندوة فكرية احتضنتها قاعة الفن الرابع في إطار “المهرجان الوطني للمسرح الوطني – مواسم الإبداع” في دورته الأولى من منطلق أن الفن فعل مقاومة، وقد تتداخل السبل وتتشعب المسالك لكن المقاومة كإرداة وكمنزع لا يمكن تجاوزها في أي مسار فني والمسرح من حيث هو فن وإبداع لا ينأى عن هذا المسار.
وفي هذا السياق قال المسرحي حمادي الوهايبي في تقديمه للندوة إنه مهما كان العدوان على فلسطين شرسا فإن المقاومة ستبقى هي الأشرس والأبقى قبل أن تنطلق الجلسة الأولى من الندوة برئاسة محمد مسعود إدريس ومشاركة كل من حاتم مرعوب وفائزة المسعودي وحسام المسعدي.
وبعنوان “المسرح قرين المقاومة” قدّم حاتم مرعوب مداخلة اعتبر فيها أنّ الحديث عن المسرح المقاوم يتطلب جهدا كبيرا في النظر في مقوماته وخطابه وجمالياته… فعادة ما يأتي الفعل المسرحي متأخرا عن المرحلة الراهنة وعادة ما يتطلب تناول القضايا مسرحيا مسافة من البعد ومن الوقت، مؤكدا أنّ المسرح يبقى دائما فنا مشاكسا لما هو سلطوي، وفنّا مناهضا لكل ما هو عنف وتطرف وظلم وظلامية …
وفي مداخلة باللغة الفرنسية تحدثت فائزة المسعودي عن أهمية المسرح في التوثيق والمقاومة كما تطرقت إلى الفن الملتزم والفن المناضل في المسرح التونسي من خلال نماذج من عناوين مسرحيات تونسية ساندت مسار التحرر وأخرى دافعت عن حقوق الإنسان وعن الحريات.
أما الجلسة الثانية من الندوة فترأسها “محمد عبازة” وسجلت مداخلات كل من إيناس زرق عيونه وحاتم التليلي المحمودي سيف الدين الفرشيشي ومريم الجلاصي.
عن التراجيديا في المسرح وعن صفات الأبطال التراجيديين وأدوراهم، تحدثت “إيناس زرق عيونه” لتخلص إلى ما يلي : “سواء كانت نية الدراماتورج في المسرح التونسي هي بناء عمل ملتزم بقضية إنسانية أو اجتماعية أو هي الدفاع عن استمرارية عمله أمام التهميش الذي انتهجته الحكومات المتعاقبة للتقليص من مفعول الفن، فإننا نجد المبدأ البنائي التراجيدي هو الأنسب لتجسيد فعل المقاومة في المسرح وحث الجمهور على إعادة التفكير والثورة والمقاومة والانتصار للحرية … ”
في وصف مؤثر لمعنى الشهادة ولوجع الحياة على أنقاض الموت في فلسطين، اهتم حاتم التليلي المحمودي في مداخلته بالحديث عن المسرح المدّجن والمسرح المتمرد فالمقموع عبر سرد مثال مسرحية “ملكة الحمام” لحانوخ ليفين، والتي عرضت في أعقاب حرب 1967، فأحدثت ضجة في الكيان الصهيوني وزعزعت استقرار القادة فواجهوها بالمنع وبالردع وبالقمع…
فيما اعتبر سيف الدين الفرشيشي أنّ مسارح المقاومة تسجل حضورها في أمثلة متعددة في المسرح الحديث والمعاصر على غرار المسرح الإسباني الذي كان ينقل المناضلين ضد الديكتاتورية ضمن فرقه، والمسرح الفرنسي زمن الاستعمار الألماني، هو المسرح الروسي إبان الثورة البولشفية وحكم ستالين، هو المسرح التونسي المقاوم للاستعمار ثم المقاوم للمد السلفي بعد ثورة 2011، هو المسرح الفلسطيني الذي لا يزال يقاوم إلى اليوم ومن بين أهم فضاءاته “مسرح الحرية ” في جنين الذي أنتج مسرحيات مهمة على غرار مسرحية “الحصار” “وهنا أنا” و”عائد الى فلسطين” …. ولأنّ المسارح في فلسطين تمثل وثيقة إدانة للكيان الصهيوني فإنّ قصف الاحتلال كثيرا ما يلحقها بالضرر ويطارد مسؤوليها وفنانيها وعروضها…
في تبويب إلى ثلاثة محاور كبرى ، وهي : مفهوم المقاومة والمسرح فن مقاومة وتاريخ نشأة المسرح المقاوم، اعتبرت مريم الجلاصي في مداخلتها أنّ مسار المسرح في تونس هو فعل مقاومة من أجل البقاء والتطور والتحرر ومن أجل الحقوق والحريات … وبعد رصد لمظاهر المقاومة في المسرح الفرنسي ولسمات المسرح المشفّر الذي يحمل رسالة مشفرة من الفنانين إلى الجنود وإلى الجمهور، عادت مريم الجلاصي إلى السياق الراهن والمقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني حيث سقط القناع عن دول وعن شخصيات وبان بالكاشف أنّ الدول التي تتشدق بالديمقراطية والحريات هي التي تفصّل الحقوق على المقاس.