مشرحة توشحت أرضيتها بالدماء، ثلاث جثث مسجاة بكل صخب الموت، ملامح الموت تغزو كل الزوايا والأركان وأمائر النشوة ترتسم على ملامح رجل تعانق أنامله الأطراف الفانية.
نفحات جنائزية تخيم على الشاشة في قاعة الطاهر شريعة بمدينة الثقافة ويشي فيلم “كاميكاز” للمخرج حسان المرزوقي بتفاصيله ليغرق المشاهد في حالة ذهنية ونفسية مربكة.
“كاميكاز” فيلم قصير من نوع الدراما نفسية يطرح أسئلة عن الوجود وعن العلاقة بالآخر ويعطي للصراع بين الخير والشر داخل كل فرد مغزى آخر على إيقاع محاولة خلق مساحة أخرى للحياة داخل المشرحة التي لا تشبه أي مشرحة أخرى، إنها برزخ بين الهلاوس والحقائق.
هل الحياة وجه للموت؟ أم أن الموت وجه للحياة؟ تتساءل وأنت تلاحق الشخصية في صراعاتها مع نفسها ومحيطها وتتهافت الأجوبة على أعتاب المشرحة حيث تتلبس الحياة والموت.
في نظرات رجل المشرحة تتجلى كل الرغبة في خلق حياة أخرى مثالية من وجهة نظره، لكنها ليست تلك المثالية التي تتبادر إلى الأذهان، إنها مثالية أخرى معطوبة تشكلت من تراكمات رفض الآخر.
“حكيم” شخصية مرضية نموذجية اجتمع لديها الهوس والعنف في سعيه لمعانقة المثالية التي يسير معها في خط متواز وهو الذي يؤسس مساراته على التناقضات ويمضي دون حكمة أو رجاحة عقل.
هذه الشخصية المستفزة في حركاتها وسكناتها وأفعالها وردود أفعالها غير المتوقعة يؤديها الممثل عبد المنعم شويات الذي يجيد ترجمة سيكولوجية شخصياته ويتقن التنقل بين الانفعالات المختلفة.
وفي “كاميكاز” لست أمام تسلسل خطي لما بلغه “حكيم” من عنف بل أنت وسط سيرورة دائرية للأحداث تخرج الهلوسات من الحقيقة والحقيقة من الهلوسات وتقحمك في رحى الصراعات النفسية.
حتى شخصية “ريحانة” التي تؤديها ريم الحيوني وتبدو في ظاهرها “متزنة” انحرفت بالظن إلى منحى آخر تستعر فيه الأسئلة الوجودية وتتوهج فيه فكرة البحث عن المعنى في ثنايا الموت وتحملك الشخصية إلى عوالمها وخلفياتها وماضيها الغامض.
دلالات اسم الشخصية بما تحمله من عبق وعطر تأتي في سياق التناقضات التي يتشكل على أساسها الفيلم، وعلى إيقاع حضورها تعزز فكرة أن الموت إذا تسلل إلى النفس وسكن فيها لن تزعزعه الروائح العطرة.
مع المشاهد المفعمة بالعنف والتي قد تبدو غير منطقية تتفتح في ذهنك زاوية نظر تشرح علل رفض الآخر والاعتقاد في الطهورية والغلو في فكرة أنك مستهدف من الآخرين وأنك الوحيد على حق والبقية الباقية على باطل.
كرات من العقد والأمراض النفسية تتحرك وتتعاظم حتى تصعب السيطرة عليها حتى أنها قد تأكل صاحبها إن لم يتدارك في الوقت المناسب خاصة إذا عاضدك أحدهم وأمعن في غرقك عن وعي أو دون وعي.
متاهة نفسية تتقاذفك في الجهات مختلفة وتجعلك تتفكر في الخلاص ويقفز السؤال الأزلي هل هو فردي أم جماعي وتتهاطل الأجوبة لكن تبدو جميعها غير مقنعة وسط حمام الدم.
اللقطات الطويلة نسبيا والكادرات المغلقة والتركيز على تفاصيل بعينها يشحن البعد السيكودرامي للفيلم وتعاضدها الصورة والموسيقى والإضاءة لخلق عالم يتمثل من خلاله المشاهد المشاكل النفسية التي تعاني منها الشخصيات.
الشرطي الذي يؤدي دوره أنور ، أيضا، شخصية سيكوباتية على طريقتها، سارت في طريق الموت حينما تخلت عن واجبها وعن صميم وظيفتها وأظهرت أسوأ ما في غرائز الإنسان فانتهى بها المطاف إلى المشرحة..
المشرحة التي تحولت إلى مرآة تكسوها الدماء واجهتنا مع أنفسنا العارية دون خرق بالية ودون مساحيق تجميل مع حقيقتنا التي نعطيها بالقش الذي لا يصمد في وجه النتوءات وتبتلعه التقرحات.
“كاميكاز” فيلم مستفز جدا، يسائل العنف الكامن في زاوية مظلمة ما في دواخلنا، ينبهنا إلى الصحة النفسية، لا يقترح علينا وصفة “مثالية” للحياة لكنه يصور لنا عواقب البحث عن المعنى في مثالية مطلقة..
صراعات بعضها صريح منها والضمنية التي يمكن أن تتخيل بنفسك أسبابها ومآلاتها، في توجه من المخرج لإلباس الشخصيات وتصرفاتها بعض الغموض لخدمة النسق الدرامي وزيادة منسوب التوتر.
وفيلم “كاميكاز”، محاولة سينمائية لتشربح واقع عنيف يفضي إلى طريق مسدود يلوح الموت عند تخومه وإن بدت فيه بعض الهنات على مستوى السيناريو وعلى مستوى إدارة الممثل إلا أنها لم تحجب الروح المستفزة للعمل.