يعتبر كتاب “ثورة التوابين” للباحثة والأستاذة المحاضرة بكلية الآداب والعلوم الانسانية وصاحبة كتاب “الدولة الأموية ومقوماتها الإيديولوجية والاجتماعية” (2008) الدكتورة بثينة بن حسين، من المنجزات القيّمة في مجال البحث التاريخي ومن ذلك التاريخ الإسلامي وبالأخصّ في مسائل مرتبطة بما اصطلح على تسميته بحقبة “الفتنة الكبرى” وما تلاها من الوقائع التي أحدثت شرخا كبيرا في وحدة الصف الإسلامي إبّان مقتل علي ابن ابي طالب، الخليفة الرّابع وابن عم رسول الإسلام وأحد رفاق مسيرته في نشر الدعوة.
ويتناول هذا الكتاب بالسّرد، الأحداث المتعلقة بظهور حركة “التوابين”، وهي حركة أو فرقة شيعية فريدة من نوعها نشأت في الكوفة إبان مقتل الحسين بن علي حفيد رسول الله. ولم يكن منطلق هذه النشأة أطماعا سياسية او أهدافا توسعية او نشر قيم دينية أو أخلاقية بعينها وانما هو شعور بالندم و”اعتراف بالذنب لعدم تقديم العون للحسين بن علي” أثناء صراعه مع الأمويين.
نشأة حركة التوابين وأهم مبادئها
في مستهلّ حديثها عن بوادر سطوع هذه الحركة الفريدة من نوعها، تقول تقول الدكنورة بثينة بن حسين في مقدمة هذا الكتاب : “ذكرت مصادر التوّابين من أصحاب علي ابن ابي طالب بالكوفة والذين ثاروا لذكرى استشهاد الحسين ابن علي في كربلاء. وقد سمّاهم المسعودي (علي بن الحسين المسعودي، ت 345 أو 346 هـ، مؤرخ وجغرافيّ في القرن الرابع الهجري) بالترابييّن نسبة الى أبي تراب وهو علي ابن ابي طالب”.
ولعلّ ما يميّز هذا البحث لكاتبة اختصت في الشأن الأموي والشيعي ــ كيف لا وهي صاحبة كتابين آخرين بعنوان “الفتنة الثانية” (2010) و”الفتنة الثانية في عهد الخليفة يزيد بن معاوية” (2013)ــ دقّة نقل الأحداث التاريخية التي ترجمت نشأة هذه الحركة أثناء الفتنة الثانية وما شابها من صراعات وتقلبات خصوصا بعد وفاة مؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان (680 م).
وتعود بنا الدكتورة بثينة بن حسين في أحد السياقات المهمة في تاريخ هذه الحركة إلى منبع نشأتها وهو “القصاص للحسين ابن علي وللتّوبة من الذنب الأعظم. فطوّروا المبادئ القرآنية التي كانت موجودة منذ الفتنة الأولى، وهي مبادئ تتعارض مع أفكار أعدائهم قتلة الحسين ابن علي الذين فقدوا شرعيتهم بمجرّد موت الخليفة يزيد بن معاوية. لكن المفهوم الأوحد لهذا التنظيم الشيعي كان متمحورا على التوبة والشعور بالذنب والشهادة لغسل الذنوب.”
وعادت الكاتبة في مفاصل كثيرة من هذا الكتاب المنقسم الى ثلاثة أبواب وستة فصول الى الدور المحوري الذي اضطلع به قائد هذه الحركة سليمان بن صرد الخزاعي (تـ 65 هـ) الذي استقبل اولى اللقاءات التأسيسية لهذا التيار الشيعي في منزله ومن ثَمَّ التزمت دعوة التوابين بالسرية المطلقة متزارية عن عيون يزيد ابن معاوية حتى وفاته. ولعلّ مبايعة عدد من أهل الكوفة لعبد الله بن الزبير أحد خصوم الأمويين التقليديين قد ساهم في اكساب هذه الحركة أكثر جرأة في مواجهة قتلة الحسين وهو ما أكدته الكاتبة في أكثر من موضع.
وبينت الكاتبة في أكثر من سياق توظيف قادة هذا المذهب الجديد للخطاب القرآني في صراعهم حيث “رجع سليمان بن صرد لفترة الرسول وجهاده للكفار” مردّدا في ضرورة مواجهته للأموين، قتلة الحسين “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل”. وتقول الكاتبة في هذا السياق : “المهم أن سليمان ابن صرد قد حدد من موقعه ككبير التوابين ذنوبهم وما يجب أن يفعلوا ليكفروا عن هذه الذنوب، وهي المواجهة العسكرية للقتلة من الأمويين بصفة مبدئية. وكان هذا الاجتماع مؤسسا لحركة التوابين، حيث شهد ولادة هذه المجموعة واستنادها على فكرة التوبة من الذنب الإثم الأعظم (خذلان الحسين وعدم الدفاع عنه حتى لا يقتل) وهو المبدأ الأساسي من مبادئهم. وبذلك ظهر خطاب الفتنة كجهاد المُحلِّين والفسّاق اي قتال المسلمين لبعضهم البعض وكل طرف منهم يستند على مبادئ قرآنية تخدم مصالحه السياسية والايديولوجية”. غير أن هذه الحركة لم تستطع لقلة عدد المنتسبين لها الصمود أمام الجيش الأموي الذي تمكّن من القضاء على قائدها سليمان ابن صرد وقتل عدد هام من عناصرها وتشريد البقية في موقعة عين الوردة سنة 65 للهجرة كما أشارت الكاتبة.
التاريخ يعيد نفسه !
تميز هذا الكتاب التاريخي المهم بمنهجيته العلمية والبحثية الدقيقة من خلال استناد الباحثة الى العديد من المصادر المتقاطعة التي جعلت منه مرجعا متميّزا ومحوريا في نفض الغبار عن حقبة تاريخية قصيرة في الزمن (من 61 الى 65 هـ) لكنها غزيرة بالأحداث والتداعيات. حيث أن هذه الحقبة شهدت تطور الحركة الشيعية ومن ثَمّ المذهب الشيعي “الذي كان له تأثير في بلادنا حيث تأسست أول دولة شيعية في تاريخ الإسلام بمساهمة فعالة من البربر (قبيلة كتامة)”، كما تقول الكاتبة التي ناقشت أطروحة الدكتوراه سنة 1997 تحت إشراف الأستاذ الفذ هشام جعيّط، حول “الدولة الأموية ومقوماتها الإيديولوجية والاجتماعية من عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان إلى آخر عهد الخليفة هشام ابن عبد الملك” .
تميز هذا الكتاب التاريخي المهم بمنهجيته العلمية والبحثية الدقيقة
من خلال استناد الباحثة الى العديد من المصادر المتقاطعة التي جعلت منه مرجعا متميّزا ومحوريا في نفض الغبار عن حقبة تاريخية قصيرة في الزمن (من 61 الى 65 هـ)
لكنها غزيرة بالأحداث والتداعيات.
لقد حاولت الدكتورة بثينة بن حسين من خلال هذا الكتاب الصادر عن دار الاتحاد للنشر والتوزيع سنة 2022 وبإشراف كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة، تسليط الضوء عن أصول المذهب الشيعي في الكوفة في علاقة بالفتنة الثانية بمرحلة مفصلية من تاريخ الإسلام المبكّر الذي تشكّلت عبره أنظمة وكيانات سياسية توارثت هذه الأحقاد والضغائن وغذّت من خلالها صراعات مازالت إلى اليوم مستعرة في الجزيرة العربية وتحديدا في اليمن أين تقف إيران، معقل المذهب الشيعي، ممثلة في الحوثيين في مواجهة التحالف العربي السنّي بقيادة السعودية.
ولعلّ ما يحدث اليوم من تقلّبات جيوستراتيجية في المنطقة العربية ومنها منطقة الخليج شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والاردن) والعراق ليس بمعزل عن هذه الصيرورة التاريخية المتواصلة على مدى قرون من الزمن.
* تم تقديم هذا النص خلال التظاهرة الفكرية التي نظمتها جمعية علوم وتراث بالقلعة الكبرى يوم السبت 23 ديسمبر تحت عنوان "قلعة الإبداع 2"