بخصلات شعره المارقة عن الزمان والمكان وبلونه القمحي الذي يحاكي تربة الكاف وجسده الذي يحمل الكثير من تفاصيلها التي ما إن تبوح بأسرارها حتى تزداد غموضا، يظهر الفنان عبد الرؤوف الورتاني في “أنا الكاهن” أول كليب من مشروعه الجديد القائم على موسيقى الروك “كهان الكاف”.
من عنوان المشروع الذي سيصدر في الخامس من جوان المقبل يتجلى تشبث عبد الرؤوف الورتاني بجذوره واستلهامه من ذاته الحالمة والمرهفة التي تجيد السفر بين الأساطير والخرافات وتسكن الزوي والمقامات والآثار والسيول والجبال والصحاري والبحار وكل شبر من ورتان، من الكاف وتونس.
في الفيديو كليب الأول “أنا الكاهن” يبدو عبد الرؤوف الورتاني تجسيدا للفن والحرية والإرث الثقافي والموروث الشعبي إذا ما تماهت، يسير بقدمين تضربان على أرض ورتان، الكاف الخصبة فتتعالى إيقاعات الروك لتعانق سماء بلاحدود ويخيل إليك أنه يحلق معها خارج إطار التصنيفات على إيقاع كلمات بالعامية التونسية.
في هذا العمل نجح المخرج صامد الحاجي في خلق فسيفساء من الحيز الكافي ومزيجا من فضاء ورتان وحولها إلى معبد رمزي تحدث فيه عبد الرؤوف الورتاني باسم كل الكهان بلغة الموسيقى التي لا تحتاج إلى معاجم لتلج إلى القلب إن كانت صادقة.
ذكريات كثيرة وتفاصيل أكثر تتهافت عليك وانت تجول بناظريك بين مشاهد الكليب الذي بدا شبيها بفيلم وثائقي قصير عن سكان ورتان القدامى تلك القطعة الحمراء الفاقعة من الكاف التي ضاعت عن أعين البعض ولكن موسيقى الورتاني أعادت إليها الحياة من جديد.
موسيقى الروك الصاخبة وأصوات الباص والدرامز والغيتار اتحدت مع روح الأرض وروح الورتاني، هالة روحاني تتجلى وتعبر بك إلى أزمنة مختلفة عبر بوابة موسيقى خلقت للثورة والرفض والتمرد وأرضا كانت عصية على الاندثار.
قبل الانغماس في هذا العمل الفني المعد بمسحة من التصوف والتعفف تستقرئها في عيني عبد الرؤوف والكاميرات والديكورات التي اختارها المخرج لم يخيل الي أن أواجه كل هذا الشجن الباطني وأن أبكي لرؤية أرض شاسعة بلا حيطان.
تمايلات الفنان، حركاته وإيماءاته ونظراته المتقدة وجسده الشفاف جدا التي تظهر من خلفها روحه التواقة إلى الحرية وإلى حياة يتساوى فيها الضياع والوجود لخلق نشوة الحياة على نسق ترانيم الطبيعة.
الامازيغية في تفاصيلها البسيطة ومعانيها العميقة، الحرية في تجلياتها الأولى، الإنسانية على سجيتها دون تكلف ولا تزييف، الوطن كما يراه رؤوف الورتاني وكل من نذر نفسه للبحث عن ذاته وسط أكوام الزيف والتملق.
شخصيات كثيرة تقفز إلى ذهنك في حضور ذلك الرجل الذي يقف في منزلة بين الكهولة والشيخوخة ويحمل في ثنايا روحه جوهر البساطة وتتقد عيناه سعيا وحبا للأرض وما عليها.
عزف ثائر يحاكي الرياح في الكاف العالي وحركات أوراق الأشجار في ورتان وموسيقى تونس إذ اتحدت عناصرها الطبيعية مع أنفاس أبنائها ممن يحبونها حتى في خرابها الأخير حيث تتخذ الآثار في الكليب أكثر من معنى تتحدى كلها وجوه الموت.
نفس الرجل الذي يظهر في الصور بشكل قد يبدو مفاجئا في البدء ولكنه جزء من تطريز بغرزة الحنين توغل في ملامحه ولباسه ونظراته فتستذكر الأجداد والجدات والحكايات المعمدة بسحر الأمان وألق الطمأنينة في أحضان بوسع الوطن.
في وقفة مع كلمات الأغنية التي يلفظها عبد الرؤوف الورتاني بجوارحه دون تنميق كما يعتمر بدواخله، يتجلى الخيط الرفيع الجامع بين الفن والإنسانية والجذور وكل محاولات الطيران.
نا الكاهن وكلامي سكاكن.. فيه الظاهر فيه الباطن// نا الكاهن كلامي مطبوع.. مش منزل مش مصنوع// نا الكاهن وكلامي قدي.. وحروفي مش من عندي// نا الكاهن بكلامي وحدي وحروفي تبقى من بعدي// نا الكاهن وخطوطي حمراء.. صوتي اللي في قلبي جمرة// نا الكاهن وبيري غارق.. وصوتي اللي في قلبي مطارق// نا الكاهن والصوت حروف.. مفرك طروف طروف// نا الكاهن والصوت موقوت.. قبل البعث وبعد الموت//
نا الكاهن والصوت حمامة.. في منامة زرقاء اليمامة// نا الكاهن وبدني فاني.. كيف تسمع صوتي تراني// نا الكاهن والصوت مليح.. كهان الكاف جاو للتصريح // نا الكاهن والصوت صحيح.. كهان الكاف جو للتصحيح..
كلمات الأغنية تحمل في طياتها كثيرا من العمق والبساطة والبداوة ويختلط فيها الذاتي بالموضوعي على إيقاع موسيقى تختزل التمرد والتعبير عن الذات والاعتداد بالجذور واستبطان الموروث الثقافي والاجتماعي.
وفيما يعتمد الروك في الغالب على إبراز قوة الصوت في الأداء يبدو الأمر مختلفا مع عبد الرؤوف الورتاني فالأمر يتعلق هنا بصدق الصوت وعمقه واقترانه بالمكان النابع منه على نسق كلمات لا تخلو من رسائل قوية عن الفنان والإنسان والفن والإنسانية والوطن.
قصة أخّاذة تعالجها موسيقى الروك هنا مدادها من شغف ونوستالجيا وشجن ولكنها لا تخلو أيضا من غضب يتسرب من بين النغمات ورغبة جامحة في محو كل ماهو زائف ومعانقة الحقيقة عارية من كل الخرق ومساحيق التجميل.
مسحة من الروحانية تسري في تفاصيل الكليب وأنت تطالع نور الشموع والتفاصيل التي تحيلك إلى سنين الطفولة والصبا وجمعات “الزردة” و”الكرامات” في “الزوي” و”المقامات” وتلهب الحنين داخلك إلى سنوات خلت وتزج بك في عالم تتخلص فيه الروح من كل المادي من حولها.