البارحة أوصدت باب غرفتي وطمست كل الأضواء وسددت جميع المنافذ حتى لا يتسلل إليّ أي صوت خارجي..
التقط القدر حاجتي إلى خلوة أعيد فيها ترتيب داخلي المبعثرة وأولوياتي المتناثرة على قارعة الآخر وعم السكون..
خفتت تلك الأوجاع التي غزت كل جسدي فلم تترك لي أي فسحة لألامسه دون أن تصدح أعماقي بآهة تستدر دموعي فما بالك لو ارتطم بشيء ما.
لا أعرف إن كان ما شعرتُ به حقيقية أم أنه أشبه بفعل تلك المسكّنات التي امتلأت بها معدتي لما يزيد عن السنة لكنني كنت أبتسم دون أن يؤلمني فكي وأجول برأسي في السقف دون أن أحس بأن رأسي سينسلخ عن رقبتي..
تلاشت حدود الزمان والمكان في غرفتي وصار السقف أشبه بمرآة كبيرة تأملت فيها هالاتي السوداء ونتوء خدي وكل البقع السوداء التي غزت وجهي.
تخيلتُ للحظة أن تلك البقع السوداء هي كل الأذى الذي استبطنته وكل الدموع التي كتمتها وكل الشتائم التي ابتلعتها وكل الضحكات الكاذبة التي امتلأت بها حتى طفحت على وجهي.
تذكرتُ شعري الأحمر الذي لم بعد أحمرَ لأنه صار يذكرني بسرعة ترسب الدم العالية وبالالتهابات وكل تلك الأوجاع التي أرهقت جسدي وروحي وجعلتني أسيرة الفراش لستة أشهر…
في المرآة (السقف) تبدت لي بعض الصور المشزشة عن عرض فيلم حياة الشكل للمخرج رامي الجربوعي والذي يروي فرادة الفنان الهادي التركي، كان آخر فيلم أحضره وأعانق فيه أصدقائي ومن كنت أظنهم أصدقائي..
يومها عُدتُ إلى المنزل واختليتُ بكاميرا هاتفي وسجلت فيديو عن الفيلم وكتبتُ مقالا عنه بتاريخ 27 ديسمبر 2022 يومها لا أعلم لماذا تعطرت قبل أن ألفظ كلمات عن فنان لم يسعفني القدر للقياه لكنه ما انفك يلهمني.
في اليوم الموالي زقزقت عصافير المنبه في هاتفي وهممت بالوقوف ولكنني سقطتُ مع أول محاولة وانخرطت في نوبة من الضحك، حاولتُ الكرة لكنني سقطت مجددا. لم يعد الأمر مضحكا لكني أمعنت في إنكار الموقف. يبدو أنني مازلت نائمة وأحلم.
بعد عديد المحاولات أيقنت أن الأمر حقيقة، لم أبك حينها لكن “دادا” ترجمت وجعي وبكت بل انتحبت وأنا مرمية على الأرض كرسالة عاشق حملتها الرياح بعيدا قبل أن تلتقطها المعنية بها.
تزاحمت المشاهد في السقف وتواترت الأحداث واختلطت الأصوات في أذني وأنا أرى الكل يتحلق حولي ويهرطق فيما يأكلني الوجع حتى أنني فقدتُ صوتي من فرط الصراخ..
لم استوعب أنني لا أقدر على المشي وانا التي تهوى التوهان في الأنهج والأزقة وتهوى السفر إلى المناطق النائية لتستمع إلى قصص تشبهها وتسارع إلى قاعات السينما والمسارح لتنتشي بالافلام والمسرحيات والرقص والشعر.
يوما تلو يوم وأنا أكابر وأنكر حالتي على أمل الوقوف مجددا، فعلتها وقفت ولكنني كنت أسقط مجددا بعد بضع خطوات ومع كل محاولة تنتشر الآلام في كامل جسدي. حينها كان لا بد من زيارة طبيب.
لم أبحث كثيرا ولم أسأل، تنقلت بعناء إلى أقرب عيادة وكانت الطبيبة مندهشة إزاء حالتي. طلبت مني صورا وتحاليلَ وتخطيطا وأشياء كثيرة وكتبت لي وصفة طبية في ورقة خربتها وهي تكتب وتمحي لتعيد كتابة اسم الدواء..
نفذت كل ما طلبته الطبيبة وعدتُ إليها وأنا أشد وجعا من قبل وكأن الدواء يزيد في إثارته فطلبت مني صورة بالرنين المغناطيسي فالتزمتُ بطلبها وحجزت موعدا في إحدى المصحات الخاصة.
ولأنني فضولية اطلعت على بعض الفيديوهات وليتني لم أفعل فجلها في بلدان أوروبية كونت لدي فكرة خاطئة عن الآلة التي تشبه القبر في برودها وظلمتها وانا التي أعاني من رهاب الأماكن المغلقة…
نوبة هلع رهيبة تملكتني وانا داخل الخندق أربكت الفريق الطبي وحينما استكنت غادرت وقد أقسمت ألا أدخل هذه الآلة وأن قيل لي إن بيني وبينها الحياة، لم أنم ليلتها وكنت أنتفض كقشة في مهب الريح.
نوبات الهلع مؤلمة ولكن الأشد ألما هو أن لا أحد يفهمك. يتهمونك بالمبالغة وبالغنج وكأنهم لا يعلمون بكل المعارك التي خضتها وحيدة وخرجت منها منتصرة لكنك حينها لم تستمع لجسدك المنهك.
تذكرت يوم أغمي علي إثر ندوة صحفية لمهرجان ياسمين الحمامات الدولي، كان وجهي شاحبا كحبة ليمون تصارع من أجل الا يطالها العفن وكنت أرتجف. لاحظ الكل ولم ألاحظ حتى سقطت في لافيات.
كنت حينها مجبرة على زيارة الطبيب الذي طلب رزمة من التحاليل كانت كلها سليمة لدرجة أنني انفجرتُ بالبكاء وأثرت استغراب الطبيب الذي لم يفهم ردة فعلي في البدء .
وحينما فهم أنني اريد سببا لما يحصل معي قال إنني شخص حساس للغاية وأن ما يحصل معي نفسي بالأساس حينها قررت زيارة طبيب نفسي ومازلت إلى اليوم أذكر طبيبتي وكيف غادرت مكتبها وعانقتني قائلة “أنت إنسانة استثنائية”..
حذرتني من هشاشتي وحساسيتي المفرطة وأخبرتني أن ميكانيزماتي الدفاعية مازالت تذود عني ولكن جسدي سينهار يوما ما حينما تضيق النفس ذرعا بالتراكمات وحصل ما حذرتني منه..
في السقف تفرعت عيني حتى رأيت فيها رحلة وجعها، كانت تلك أولى الإشارات. عضلات العين ضعيفة ومشاكل أخرى جعلتني أجد صعوبات كثيرة في العمل وسقطت معها أقنعة كثيرة اسمها الزمالة والأخوة …
ابتسمت وأنا أقطع الطريق على دمعة لو نزلت لأحرقت خدي فلمعت أسناني وتذكرت آلام فكي وطبيبة الأسنان وكل الأسئلة المعلقة التي أجابت عنها “الفيبروميالجيا” التي صارت اليوم صديقتي.
استغرق الأمر أكثر من سنة لتشخيص المرض وبعد الطبيبة الأولى التي استخفت برهابي من الأماكن المغلقة وأخبرتني أنها هي أيضا تخاف من القطط ونصحتني بدورات في التنمية البشرية.
أقلعت عن زيارتها واكتفيت بنصيحتها بخصوص حصص العلاج الطبيعي التي استمرت لأكثر من سنة وكنت أحسن على آخرها لكن الألم لا يزول ولعل أحلى ما فيها أن أخصائية العلاج الطبيعي كانت تشعر بألمي ولا تستهزئ بي.
هناك في عيادتها عشت تفاصيل كثيرة جعلتني أتعايش مع الألم واستمع إلى قصص الآخرين الذين صارت بيني وبينهم روابط بفعل الوجع وما أمتنها من روابط كانت آهة أحدنا بمثابة السهم الذي يغرز في قلب الآخر ..
بعد أن عزفت عن الطبيبة الأولى كان لابد لي من طبيبة أخرى تقيم حالتي بعد حصص العلاج الطبيعي، كانت هادئة مبتسمة تتحدث وكأنها تغني، طمأنتني واطمأن قلبي لها وقارنت بين الصور والتحاليل ورأت تحسنا.
كتبت لي علاجا لمدة ثلاثة أشهر ونصحتني بالمواظبة على حصص العلاج الطبيعي وتجنب التوتر والمواقف الصادمة وابتسمت ابتسامة مبهمة حينما تذكرت أنني صحفية، وانتهت الأشهر الثلاثة بعد لقائها ولم ينته الألم..
بعد كل هذه الرحلة كان موعدي مع طبيبة ثالثة أهدتني عنوانها أخصائية العلاج الطبيعي وكلاهما أشبه بالملاك وفي اول
لقاء وبعد أن اطلعت على كل الصور والتخطيطات والتحاليل حددت أنني مصابة بالفيبروميالجيا.
هذا المرض الذي يتغذى من التوتر والصدمات أربكني خاصة وأنتي أعاني من ضعف عضلي والتهاب في المفاصل لكنها طمأنتني ومع بداية العلاج تلقيتُ صدمة كبرى ولم يعط العلاج مفعوله المرجو وتواترت الصدمات والطبيعة تواسيني.
مع كل انتكاسة انغمس في قراءة الدراسات عن هذا المرض، الفيبروميالجيا أو الألم الليفي العضلي، هذا المحتل الذي يسبب ألما واسع وشعورا بالإرهاق والتعب واضطرابات في النوم والذاكرة والحالة المزاجية وأنا الجوازائية المزاجية بطبعها!
الحوادث الجسدية أو الإجهاد النفسي الشديد قد تكون سببا في هذا المرض، ربما تكون تلك السقطة القوية التي تعرضت لها حينما صفعني عون أمن ذات مظاهرة سببا وربما تكون هرسلة بعض المحيطين بي سببا، وربما تكون خيباتي هي الأخرى سببا آخر بل إن بعض الدراسات رأت أنها نتاج لكورونا.
ومهما يكن السبب فهذا لن يغير شيئا فالحلم مازال يلازمني والأعراض تلاعب تخفت تارة وتحتد طورا وتختفي أحيانا فأفرح ولكنني أبكي مع أول شد عضلي يمنعني من التقدم خطوة إلى الأمام أو الرجوع خطوة إلى الوراء أو الرجات الكهربائية التي تهزني هزا ناهيك عن الآلام التي أعجز عن وصفها..
آلام دون أسباب واضحة في معظم الأحيان تثير فيك الرغبة في الاصطدام بحائط أو كسر كأس بين يديك أو للارتطام بأي شيء حاد لتقنع نفسك ومن حولك أنك تتألم حقا..
لأنني امرأة أتعرض للعنف على أساس النوع الاجتماعي وأتعرض للتحرش وغيره من الممارسات التي تنهش روح المرأة فأنني أيضا من ضمن الفئة الأكثر عرضة للإصابة بالألم الليفي العضلي.
قلق واكتئاب وأرق وآلام لا وجود لعلاج فعلي لها، هو كوكتيل من الأدوية يساعد في السيطرة على الأعراض وتقليص الألم مع ممارسة الرياضة التي لا يقبل منها جسدي الهش سوى المشي وبعناء، مع مراعاة عدم التعرض للضغوطات والصدمات.
وجع واسع يمتد على جانبي الجسم ويلامس أعلى الخصر وأسفله، إرهاق دون أسباب، صعوبة في صعود الدرج والنزول منه، اضطرابات في النوم، شد عضلي، نوبات هلع، عسر في الحركة إثر أقل توتر، تعب مزمن، وغيرها من الأعراض المزعجة التي تجعلك غير قادر على التصرف بشكل طبيعي.
تتشابه الأيام في انطوائي على ذاتي وتتلون الآلام وأبدو أشبه بدمية يقلع طفل صغير انطلق في تحسس العالم اوصالها، أعجز عن وصف ما أشعر به ولا أجيد شيئا غير التقوقع والبكاء.
تلك الفراشة التي تهوى التنقل والضحك باتت عاجزة عن أبسط الحركات لكنها مازالت تحب مهنة الصحافة حد المرض ولم يثنها عجزها عن النبش في مواضيع تعجبها ولا تتطلب منها الحركة، تشعرها أنها موجودة وأنها حرة وحية رغم أسر المرض.
وبين أثر الفراشة الذي زال والذي علق في القلوب مازالت الرحلة مع المرض متواصلة ولكن صارت الفيبروميالجيا صديقتي لن أنسى أنها أمهلتني بعض الوقت لأستوعب صدمة كانت قاسية ورأفت بي وأنا أحاول أن أكون صديقة جيدة..
الفيبروميالجيا غمرتني بلطفها ونباهتها وصارت تدفعني دفعا إلى تمييز كل الأشياء والمواقف التي تستقزها فتوجع جسدي النحيل، تجعله يتصلّب أو تملؤه كدمات، تقعدني عن الحركة وتقطع طريق النوم إلى جفوني.
قد يبدو الأمر سورياليا ولكني صرت أحب هذه الصديقة التي علمتني أن أستمع إلى جسدي وألا أحمل نفسي فوق طاقتها، تعلمتُ الأمر متأخرا جدا بعد أن فقدت الكثير من الطاقة والشغف ولكنها تدربني مجددا على ترميم شتاتي.
الآن صارت صديقتي تنبهني إلى المواقف المستفزة والمسيئة لي بوخزة في أحد الأوتار أو ألم شديد في أحد العضلات أو التهاب حاد في المفاصل، أثارت بصيرتي على أنني الأولى يكل المحبة التي أوزعها من حولي دون حساب.
في البدء كان مجرد الحديث عن الفيبروميالجيا يرعبني يرهبني، هاجس القعود عن الحركة يقتلني، وكلما قرأت عنها أكثر كل ما زاد ارتباكي ولكن في الآن ذاته صارت لأسئلتي أجوبة والآن لم تعد الآلام المتبدلة والمتغيرة تزعجني بل صرت أفهم مرضي وصار يفهمني كما لم يفعل أحد من قبل !