تلك الدموع التي ظلت طريقها وصارت ضحكات يتهافت معها الوجع والقهر تناثرت على ركح التياترو في ثنايا مسرحية “لوزينا” للمخرج هيكل الرحالي.
عبرات تخطاها الوجع حتى صارت قهقهات تمتد بين المركز والهامش وترسم ملامح اللعبة بين الحكام والمحكومين في صيغهم المتعددة والمختلفة.
المركز مرتسما على ملامح شخصية تربعت وسط الركح وسردت تفاصيل مختلفة عن تغولها وفسادها قبل أن تتفرع إلى الشخصيات الأخرى التي تجسد الهوامش على تنوعها.
الكل يدور في فلك مصنع تكدست فيه الملابس بألوان وتصاميم مختلفة، مصنع يحاكي الحياة في تفاصيلها ويجمع في دروبه شخصيات لكل منها خلفياتها وخصوصياتها.
“لوزينا ” عنوان المسرحية المستوحى من المكان الذي يؤوي الشخصيات وتتواتر فيه الأحداث تباعا هو تونسة للكلمة الفرنسية “l’usine ” والتي تعني المصنع.
من أول المشاهد إلى آخرها تقحمك المسرحية في قلب الصراع داخل المصنع بين المشغل والشغالين حيث تتلبس الحقوق بالواجبات ويصبح أدناها من قبيل الرفاهية.
على إيقاع حكايات العمال تحول ركح التياترو إلى مصنع تراكمت فيه الملابس المستعملة بكل ما تحمله من رمزيات وتوسطته طاولة بيضاء حيّدت كل الألوان.
ومع تواتر المشاهد تهاطلت قصص لعاملات وعمال لكل حكاياته وأحلامه وآماله وهواجسه، قصص يررونها فرادى ومثنى ثم جماعات ليلحوا على أن الخلاص جماعي أو لا يكون.
مثقلون بأوجاعهم، محاصرون بأوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، سجناء في المصنع في وضعية هشة آلت مع تدفق الأحداث إلى الاحتجاج.
الشخصيات في هذه المسرحية ليست هجينة ولا غريبة عن الواقع هي منه تشبه الناظر إليها في تفصيل ما، تضع أصابعها على جراحه وتصرخ بصوته مطالبة بحقوقه.
تؤدي واجباتك دون أدنى حقوق، تعمل ساعات إضافية دون جزاء أو شكور، لا تتمتع بالتغطية الاجتماعية، تعاني العبودية في شكلها الحديث، تشكو من صفاقة مشغلك، الشخصيات تنهل منك.
دورة الغضب والتغيير التي تبدأ من التفطن إلى أن الأمر لا يتعلق بتاتا بعمل لائق وإنما هو استعباد مقنع، وصولا إلى البوح والشكوى فالاحتجاح والإضراب.
هذه المراحل تشكلت تباعا على نسق أسلوب إخراجي اختار هيكل الرحالي أن يكون معمدا بالكوميديا(كوميديا الموقف وكوميديا الكلام) بشكل يجعلك تضحك على أوجاعك.
ومع انهمار الحكي تبدت كل ملامح النص البسيط في ظاهره والعميق في تأويلاته، نص يجد صداه لدى كل من خبر سوق الشغل مهما كانت طبيعة العمل أو المستوى التعليمي.
ومع كل مشهد تتعرى الشخصيات شيئا فشيئا حتى يكسوها الوجع وهي تضحك، شخصيات أداها بعفوية كل من عبد الكريم البناني وزينب المالكي ورحمة الجربي شطور وهشام بوراوي وآمال العياري وبلال بن رمضان وسهير خمير مزيو ولمين حمزاوي ومحمود السعيدي.
الممثلون الذين تلقوا تكوينا تطبيقيا في فضاء التياترو الذي يديره توفيق الجبالي، تقمصوا الشخصيات حتى بدوا كأنهم خلقوا في مصنع الملابس المستعملة الذي شيدته السينوغرافيا على الركح.
وفي مسرحية “لوزينا” كانت الموسيقى بمثابة الشخصية المستقلة التي تتخذ معها الأحداث منحى تصاعديا أو توغل على نسقها الشخصيات في دواخلها وتمعن في البوح.
سيل من المواضيع الإنسانية انهمر على الخشبة ليروي وجع المضطهدين فيسقط على الأقمشة الملونة التي تستعير ضحكات المهرج لتروي المآسي الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
عالم آخر مختلف ينسج هيكل الرحالي ملامحه من رحم الواقع التونسي ويختزله في مصنع الملابس المستعملة الذي لا يعدو أن يكون إلا عينة من الواقع التونسي الذي استشرى فيه التسلط والسلطوية.
*صورة : عبد القادر قرشي من صفحة التياترو