
بقلم رانيا الحمامي *
مابوكا رواية تغوص بك في أعماق القلعة لتحملك الى أعماق الوطن، وتجوب بك الحاضر والماضي في تمازج لصيق فتظن أن الزمان لا يفصلهما، وتسافر بك الى بلاد بعيدة لتجد نفسك في الوطن تونس.
من الصفحات الأولى لمابوكا تشتم رائحة خبز الطابونة الساخن الذي تخبزه نساء القلعة بطريقة خاصة بهن، يحملك الحوار الثري بمفردات اللهجة القلعية إلى حديث ربما يجري الآن في قلب مدينة القلعة. الأسماء والأماكن والاحداث تؤكد لك أن الرواية لا تنطوي فقط على حكاية من نسج خيال ولكن توثيقا وبحثا عميقا لمدينة حافلة بأحداث المقاومة وبناء الوطن بعد كل حروبه، مدينة زاخرة بتاريخ لا يقدر بثمن أو مال. وتثبت أن الأموال لا تشتري تاريخا أو شرفا.
من يعتقد أن عمق القلعة وروحها لا يعرفه ولا يلم به ولا يدركه إلا من ولد من أرحامها سيغير نظرته خلال رحلته مع مابوكا ، إذ سيخيل اليك أن الروائي والكاتب عثمان الاطرش، اصيل مطماطة قابس، خلق في القلعة الكبرى، منذ زمن، منذ عقود، و لم يفارقها يوما.
في الظاهر، تغوص بك رواية “مابوكا” في القلعة الكبرى والساحل لكن في الحقيقة هي تغوص بك في عمق الوطن، وفي اوجاعه، وفي جماله وعطائه، وفي خصاصته، والابتعاد عنه وفي ٱلام الغربة.
وقد أبدع الروائي عثمان الاطرش في رسم الوطن الساكن فينا في صورة الأم التي تخبز خبز الطابونة وتبيعه لتسد جوع عائلتها فلا هي أغنت العائلة واستجابت لأحلام وطموح ابنها، ولا هي ترغب في رحيلهم عنها كما فعل البعض من أجدادهم. مزيج الوجع بين الأم والابن المغترب، يجعل الرواية لمن يقرؤها وهو حامل حقائبه للرحيل تاركا الوطن من أجل العيش في سجن الغربة المريح يعدل على قراره ويتشبث بأرض تعطيه ما هو ثمين رغم بساطته لا تشتريه له أموال الغربة. لتكتشف في النهاية، أن التشبث بالوطن جنون وان الوطن منفتح وان بقاءك فيه عبث مادامت عصابات الشر ومحاربو النجاحات تحكمه وتدير دواليبه.
يبقى العنوان غريبا إلى أن تكتشف سره ( صفحة 26) بمواصلة الغوص في بحر مابوكا وتكتشف أن الوطن والام لا يغيبان عنك اينما حللت وأنهما لا يندثران وان تغير شكلهما وان الام تماما كالوطن الحارس الملاك الذي لا يفارقنا إذ أن مهمته الوحيدة حمايتنا.
في تفاصيل الرواية، يحملنا بطل الرواية “حليم” معه في سفره اين يبحث عن انتصارات جده لعله يجد في ما تركه الجد ما يغير حياته. مثلنا جميعا نغوص في تاريخنا ، في قرطاجنا وكاهنتنا لعلنا نجد ما نشبع به ذاكرتنا وندغدغ به جيناتنا لتستيقظ وتغزو عالما وتصنع انتصارات يوثقها الحاضر وينتظرها المستقبل.
في جانبها الآخر ، تروي لنا مابوكا عبر رسائل الجد “القلعي” الذي لم يعد من الحرب إلى الساحل، مأساة الجنود وأوضاعهم في حرب القرم. جنود لا علم لهم لماذا يحاربون مع الأتراك، لكن يعلمون أن أغلبهم لن يعود إلى أهله. وتتطرق الرواية بتجرد إلى المعاملة الدونية التي تعامل بها الاتراك مع الجيش التونسي وكيف تم التنكر له فلا يقدمون له الضروريات لمكافحة البرد للبقاء على قيد الحياة ولا يقحمونه في معارك لانعدام ثقتهم فيه. ورغم ذلك يواصلون استقدام المزيد من العسكر التونسي لا للحرب لكن فقط للموت.
ولم تكن رسائل الجد سردا لحكايات من وحي خيال الراوي المطلق فقد امتزجت بأحداث ومواقع تاريخية يستشعرها كل مطلع على التاريخ. نهاية الرواية هي فشل مشروع ولد ميت، اغتيال حلم لم ير النور ويقدم أحد الأسباب الدافعة لهجرة الشباب التونسي رغم وجع الغربة.
مابوكا هي وطن ينهب ووطن يترك ، هي ام تبقى وحيدة تودع وحيدها ولا تأمل عودته، هي وجع التاريخ الذي يتكرر بشكل ساخر دون أن نتفطن، نبحث فيه عن امجادنا وندفن فيه امجادا نعجز على صناعتها في حاضرنا ونأمل أن يصنعها احفادنا. مابوكا هي مزيج من ذاكرة القلعة الكبرى وحرب القرم، هي مزيج من الحلم ومن الوجع وهي ثأر لمجد منسي وحاضر بائس.
* روائية وكاتبة