أجرى الحوار : محمد علي بن الصغيّر
يعتبر الفنان والمخرج المسرحي محمد علي سعيد من الفنانين المغامرين في مجال اختصاصه حيث راهن على إنشاء فضاء مسرحي وهو فضاء مسرح كورتينا بالقلعة الكبرى في الوقت الذي يمر فيه “أبو الفنون” في بلادنا بحالة من الوهن الشديد. ولعلّ ايمان مخرج “تطهير” وعقاب جواب” و”نهير خريف” وغيرها من الأعمال الفنية الرائدة كان هو الدافع الرئيسي وراء خوضه هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر على متعتها.
في هذا الحوار المطوّل يتحدث محمد علي سعيد عن مسيرته الفنية وعن مدينته وعن وتصوراته حول القطاع الفني وكذلك عن استعدادات مسرح كورتينا لاحتضان تظاهرة “مسرح 100 كرسي” التي ستلتئم من 15 إلى 20 أفريل الجاري.
تستعدون لتنظيم تظاهرة “مسرح 100 كرسي”… ماذا عن الدورة السادسة لهذا الموعد الثقافي ؟
مشروع تظاهرة “مسرح 100 كرسي” هو مشروع متواز مع تأسيس مسرح كورتينا بمدينة القلعة الكبرى. وهو مشروع مبنى أساسا في علاقة بمسرح كورتينا الذي يحتوي على مائة كرسي. وقد رمنا من خلال إنشاء هذا الفضاء الخاص تحقيق هدفين رئيسيين على الأقل حيث كان الهدف الأول يقوم على خلق نوع من الاستقلالية في إنتاج أعمالنا المسرحية لما يوفره الفضاء الخاص دائما من إمكانيات وفرص أكبر تنعكس بطريقة ايجابية على جودة أعمالنا المسرحية وهو ما لمسناه فعلا خلال جملة الأعمال التي تم اعدادها على ركح هذا الفضاء مثل “نهير خريف” و”بيت الثلج” و”جرائم زوجية” وغيرها من الأعمال.
أما الهدف الثاني فقد تمثل في بعث تظاهرة مسرحية تؤسس لتكريس ثقافة الفرجة أو استقطاب الجمهور نحو المسرح في ظل العزوف الكبير الذي لمسته من خلال جملة العروض التي قدمتها داخل تراب الجمهورية. وعلى ذلك كان لابد من تغيير الاستراتيجية من خلال التوجه نحو الجمهور والاقتراب منه أكثر فأكثر عبر تظاهرة توطد علاقته بالفضاء الذي يتواجد فيه.
وبشهادة الجميع نجحت الدورة الأولى من “مسرح 100 كرسي” في تحقيق مجمل هذه الأهداف المرسومة من خلال التوجه نحو فئة معينة من الجمهور وهي فئة الطلبة. وقد راكمنا خلال الدورات المتتالية نجاحات مهمة حيث أننا تمكنا من كسب رهان “صفر كرسي شاغر” كما فسحنا المجال أمام شبان لاكتشاف المسرح من خلال هذه التظاهرة.
وماذا عن جمهور الدورة السادسة ؟
مما لا شك فيه أننا نسعى من خلال هذه التظاهرة الى التنويع في نوعية الجمهور المتكون أساسا من الشباب والكهول حيث أننا ارتأينا هذه السنة التوجه نحو تلاميذ الباكالوريا لما للمسرح من وقع إيجابي على نفسيتهم وعلى استعداداتهم الذهنية والمعنوية في خوض الاستحقاق الدراسي الهام.
في بادرة متميزة تعتزمون تخصيص اليوم الافتتاحي لتكريم مسرح الحمراء من خلاله مؤسسه المسرحي الكبير الراحل عز الدين قنون ؟ في أي إطار تندرج هذه البادرة ؟
يتنزل هذا التكريم في الواقع في إطار توجه عام رمنا من خلاله تكريم أعرق الفضاءات المسرحية الخاصة اعترافا بالجميل ووفاء لجملة من المبدعين الذين أسسوا للفن المسرحي في بلادنا وقاموا بتهيئة الأرضية الملائمة لتطور الفعل المسرحي من خلال بعث فضاءات مماثلة مثل مسرح كورتينا الذي يحتضن هذه التظاهرة.
وقد قمنا في الدورة الثانية من تظاهرة “مسرح 100 كرسي” بتكريم فضاء التياترو للفنان والمبدع توفيق الجبالي على اعتبار أنه أول فضاء مسرحي خاص تأسس في تونس في أكتوبر 1987. ويعتبر فضاء الحمراء ثاني هذه الفضاءات التي رأت النور في بلادنا بعد مدة قصيرة من تأسيس فضاء التياترو. وعلى ذلك ارتأينا دعوة ابنته ومديرة الفضاء الفنانة وأستاذة المسرح سيرين قنون بالاضافة الى العديد من الذين تعاملوا مع الراحل عز الدين قنون على غرار الفنانين البحري الرحالي وعبد المنعم شويات والمنتج ومدير فضاء الريو بالعاصمة الحبيب بالهادي اضافة الى العديد من الفاعلين في القطاع المسرحي.
تظاهرة “مسرح 100 كرسي” ليست تظاهرة ثقافية فحسب بل اتسمت أيضا بالبعدين الاجتماعي والعلمي من خلال تنظيم الدورة الثالثة للملتقى العلمي التكويني لتنمية قدرات الأطفال حاملي الاعاقة. وقد خصصت هذه الدورة للتباحث حول “تنمية قدرات أطفال التوحد باستخدام الفنون”. أولا لماذا هذا الملتقى ؟
بحكم وجود فضاء مسرح كورتينا داخل مركز النهوض بالمعاقين بالقلعة الكبرى ومن خلال اتفاقية الشراكة بين الطرفين، وهي في واقع الأمر تجربة نموذجية بأتم معنى الكلمة، كان لزاما على مسرح كورتينا أن يكون مندمجا مع الفضاء أو الاطار العام الذي يحتضنه من خلال تبنّي أهداف هذه الجمعية ذات البعد الاجتماعي والإنساني. وعلى ذلك كان مسعانا، وهو مسعى طبيعي يتنزل في اطار الاهداف السامية للفن المسرحي، هو دعم المربين والمكونين داخل هذا المركز على الاحاطة وتنمية قدرات رواده من ذوي الاحتياجات الخصوصية.
ماهي أبرز ملامح هذا الملتقى في دورته الثالثة ؟
للتنويه قبل الاجابة عن السؤال أن هذا الملتقى ينتظم للمرة الثالثة بعد احتجاب بسبب الأزمة الصحية (كورونا) التي مرت بها بلادنا ومخلفاتها السلبية على جميع القطاعات من ذلك القطاع المسرحي حيث تفرغنا بعدها إلى عملية انقاذ الفضاء وهو ما دفعنا الى تأجيل تنظيم هذا الملتقى الذي يعود هذه السنة رغبة منا في تكريس التقاليد التي تأسست عليها تظاهرة “مسرح 100 كرسي”. وقد التأمت الدورة الأولى سنة 2018 وخصصت لموضوع “العلاج بالمسرح”بمشاركة العديد من المختصين وعلى رأسهم صاحب الفكرة ومؤسس هذا الملتقى العلمي الدكتور زهير بن تردايت بالاضافة الى هدى اللموشي من تونس ونضال جمّوس من الأردن. في حين خصصت الدورة الثانية لتدريب الأطفال حاملي الإعاقة على كيفية التحول من النص الى المسرح.
وتعتبر هذه الدورة الثالثة استثنائية نوعا ما باعتبار انفتاحنا على فنون أخرى مثل الموسيقى والفنون التشكيلية كأداة من أدوات تنمية قدرات المصابين بطيف التوحد. ومن خلال لقاءات جمعتنا بالاستاذة فاتن المساكني المختصة في العلاج بالنحت والرسم وبالدكتور وسيم جمعة المختص في علاج طيف التوحد بالموسيقى بالاضافة طبعا للاستاذ زهير بن تردايت المختص في العلاج بالمسرح ارتأينا تنظيم ملتقى مندمج وثلاثي الابعاد يهدف اساسا الى تنمية قدرات الأطفال المصابين بطيف التوحد. كما سيشارك في هذا الملتقى العلمي الدكتور الصادق جبلون المختص في علم نفس الطفل والمراهق والذي لديه تجارب هامة في التعامل مع المصابين بطيف التوحّد.
وسيتم على هامش الملتقى العلمي تنظيم ورشات مفتوحة موجهة لمراكز النهوض بالمعاقين ورياض الأطفال وكذلك الأولياء سيقع من خلالها تقديم الآليات الكفيلة بالتعامل مع المصابين بهذه الاعاقة باستخدام هذه الفنون.
لنتحدث مسرح. هل تساند الفكرة القائلة إن المسرح في تونس يواجه أزمة وجود ؟
المسرح ليس بمعزل عن التطورات الحاصلة في بلادنا. هو يواجه كبقية القطاعات الأخرى تحديات جمة في علاقة بالمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد تهدد وجوده. لكن في اعتقادي أن الازمة التي يمر بها المسرح التونسي هي أزمة تشريعات والتي من شأنها تنظيم القطاع والحفاظ على حقوق العاملين صُلبه وحفظ كرامتهم ومنحهم مجالا أوسع للإبداع من خلال توفير ظروف الراحة النفسية والمادية المناسبة.
هناك من يرى أن سياسة دعم الفنانين هي سلاح ذو حدين. إذ بقدر مساهمتها في دفع الفنان نحو الانتاج والابداع فهي ربما تدفعه الى التواكل وانتظار ما ستجود به عليه من فتات وهو ما يتعكس سلبا على جودة المنتوج الفني. ألم يحن الوقت حتى يخرج الفنان من جلباب الدولة نهائيا ؟
هناك جانبان مهمان في الإجابة على هذا السؤال. أولا، وبالعودة إلى الفترات السابقة نجد أن العديد من كبار المسرحيين مثل توفيق الجبالي ورجاء بن عمار وعز الدين قنون والحبيب شبيل وفاضل الجعايبي وغيرهم كانوا أصحاب مشاريع وحاملين لرؤى فنية متكاملة انعكست إيجابا على جودة الأعمال المسرحية المقدمة بقطع النظر على حجم الدعم حيث كانت البصمة الشخصية واضحة في أعمالهم.
غير أن المعاببر تغيّرت اليوم وأصبح الدعم هو الغاية وليس الوسيلة للإبداع والبحث والإنتاج. لكن هذا لا يمس في شيء من أحقية الفنان في نيل هذا الدعم الذي يبقى هزيلا رغم تطوره نسبيا في السنوات الأخيرة. وهو ما يدفعنا هنا الى الحديث من جديد عن دور الدولة في تحديد التشريعات الخاصة بالدعم وبمسالك توزيع العمل المسرحي. ذلك أنه بإمكان أي فنان إنتاج عمل إبداعي هام قائم على تصورات فنية وبأدوات تقنية هامة قد يقع وأْده لمجرد خلل في عملية توزيع هذا العمل.
كيف ذلك ؟
للأسف بلادنا تفتقر إلى فضاءات خاصة بالمسرح، باستثناء بعض الفضاءات في العاصمة، قادرة على استيعاب أعمال فنية مسرحية من الناحية التقنية واللوجستية. وانطلاقا من تجربتي الشخصية اكتشفت أنه في بعض المناطق الداخلية تفتقر العديد من الفضاءات الموجودة بدور الثقافة الى ابسط مقومات وشروط تقديم العرض من ركح أو اضاءة وغيرها.
الأزمة التي يمر بها المسرح التونسي هي أزمة تشريعات والتي من شأنها تنظيم القطاع والحفاظ على حقوق العاملين صُلبه وحفظ كرامتهم ومنحهم مجال أوسع للإبداع من خلال توفير ظروف الراحة النفسية المناسبة.
البعض يتحدث عن احتكار الفعل المسرحي في تونس أو حتى الحديث عن بارونات أو كارتالات في المسرح. ما مدى صحة هذا القول ؟
شخصيا لا أعتقد في صحة هذا التوصيف.
لماذا لم ننجح الى اليوم في صناعة رموز أو حتى أسماء مسرحية جديدة وازنة على غرار الأسماء القديمة كالجبالي والجعايبي وقنون وغيرهم ؟ هل يتعلق الأمر بأزمة إنتاج أم اتصال أم رؤى ؟
هؤلاء الذين ذكرت هم فنانون تاسست تجاربهم على مشاريع ورؤى وأطروحات وأفكار فنية وإنسانية. الأمر الذي جعل من منجزاتهم خالدة ولا يمكن التغاضي عن أهميتها. غير أنه من الإجحاف القول بعدم وجود أسماء جديدة وازنة في الفعل المسرحي والقادرة على حمل المشعل عن الذين سبقونا.
على غرار من ؟
لا أريد طرح أسماء بعينها لكن أعتقد أن هناك العديد من التجارب المهمة على غرار تجربة أنور الشعافي في المسرح التجريبي. كما لا يمكن التغاضي عن تجارب الشاذلي العرفاوي أو المبدعة وفاء الطبوبي من خلال “آخر مرة” أو “الأرامل”. لكن للأسف في خضم هذه الفوضى التي نعيش على وقعها العديد من هذه الأسماء لم تجد حظها لتتصدّر المشهد.
اليوم تغيّرت المعايير وأصبح الدعم هو الغاية وليس الوسيلة للإبداع والبحث والإنتاج. لكن هذا لا يمس في شيء أحقية الفنان في نيل هذا الدعم الذي يبقى هزيلا رغم تطوره نسبيا في السنوات الأخيرة
لطالما اشتكى الفنان المسرحي من عزوف الجمهور. لكن المتأمل في أكبر التظاهرات على غرار أيام قرطاج المسرحية يرى عكس هذا الطرح. هل يتعلق الأمر بجمهور مناسباتي ؟
أيام قرطاج المسرحية هي التظاهرة الوحيدة تقريبا التي تستقطب عددا كبيرا من الجمهور حيث تدور معظم العروض داخل قاعات تغص بالجمهور. وهو أمر يسرّنا كثيرا بالنظر الى العدد لكن ايضا الى جودة ونوعية الجمهور وهي تقاليد نجحت هذه التظاهرة الهامة في تكريسها، عدا ذلك يجوز القول أننا أمام جمهور مناسباتي. وهنا اعتقد من وجهة نظري أن للاعلام دورا كبيرا في التشجيع على إقبال الجمهور على المسرح حيث أن بعض الاعمال المتوّجة أو الناجحة فنيا لا تحظى بالمتابعة أو المواكبة الاعلامية اللازمة مما يؤثر سلبا على عدد الجمهور الحاضر. وهذا التشخيص هو من واقع تجارب عديدة مررت بها.
ألا تعتقد أن عامل التوزيع أو البرمجة غير المدروس من قبل سلطة الإشراف لهذه الأعمال عبر الفضاءات أو حتى عبر الجهات هو من بين أسباب غياب الجمهور أيضا ؟
صحيح. للأسف هناك غياب استراتيجية واضحة في توزيع العروض. إذ من الضروري أن تتم برمجة كل عمل مسرحي حسب رؤيته وطرحه ومواصفاته الفنية والتقنية وملاءمته مع الجهة أو الفضاء التي سيتم فيها العرض وهو عكس ما نلاحظه في معظم الأحيان. وعلى ذلك من المهم الحديث عن ضرورة التنسيق بين إدارة المسرح والمندوبيات الجهوية للثقافة. غير أن هناك بعض الإشكاليات التي يستعصي حلها وتتعلق أساسا بطلب بعض الجهات عمل فني بعينه، وهذا حق مشروع، دون أن تكون قادرة على توفير الحد الأدنى من مستلزمات العرض التقنية واللوجستية وهو ما يؤثر بدرجة كبيرة على جودة العرض وربما قد يساهم في تقديم صورة سيئة عنه رغم جودته وأهمية طرحه.
المؤسف فعلا أنه وبالرغم من وجود العديد من دور الثقافة الكبيرة والمتطورة هندسيا إلا أنه يتم اهمال الركح وتجهيزات الاضاءة وغيرها من متطلبات العرض تقنيا. وهو ما يجعل وزارة الثقافة مطالبة بخلق ارضية ملائمة في كافة الجهات قادرة على احتضان جميع العروض المسرحية على اختلاف متطلبات عرضها.
اعتقد أن للاعلام دورا كبيرا في التشجيع على إقبال الجمهور على المسرح حيث أنه بعض الاعمال المتوّجة أو الناجحة فنيا لا تحظى بالمتابعة أو المواكبة الاعلامية اللازمة مما يؤثر سلبا على عدد الجمهور الحاضر
في علاقة بأيام قرطاج المسرحية، العديد من النقّاد وحتى المخرج نفسه راهنوا على تتويج مسرحية “تطهير” في دورة 2019 لكن ذلك لم يحصل. هل ظُلِم محمد علي سعيد خلال أول مشاركة له في المسابقة الرسمية ؟
اعتبر اني ظلمت نوعا ما وكنت استحق التتويج. لكن كل فنان يحلم بنيل جائزة في مسابقة في حجم أيام قرطاج المسرحية وهو حلم مشروع بالنظر إلى القيمة الفنية والاعتبارية لهذا الحدث المسرحي الهام. تلك هي أحكام اللعبة، ومن يدخل اللعبة عليه أن يرضى ويقتنع بنتائجها. شخصيا اعتبر أني نجحت في هذا الاستحقاق الفني من خلال تقديم مسرحية “تطهير” في مناسبتين بمسرح الريو أمام أكثر من 800 متفرج وهذا يعتبر في حد ذاته تتويجا وشرفا بالنسبة لي.
انبنت معظم أعمال المخرج محمد علي سعيد على صراعات خفية أحيانا وظاهرة أحيانا أخرى بين الذات مع الذات وصراعها مع الآخر. على أي أساس بُنِيَ هذا التوجه ؟ هل هي رغبة أم مجرّد توق للاختلاف ؟
هو مزيج بين هذا وذاك. أنا بطبعي توّاق للاختلاف. للتذكير كانت بداياتي في الإخراج مع مسرح الطفل وكانت تجربتي مختلفة نوعا ما عن السائد. انتظرت كثيرا وبحثت طويلا عن الفكرة أو المشروع الفني الذي يلامس أفكاري ورغباتي الحسية والفنية إلى أن وجدت ضالتي في مسرحية “بيت الثلج” عن نص أصلي لهارولد بنتر وترجمة حسن المؤذن وهو من إنتاج شركة رؤى للمسرح. وقد تزامن هذا المشروع مع افتتاح مسرح كورتينا الذي كان له الدور المحوري في إنجاز أعمالي بالنظر الى المواصفات الفنية التي تميز بها وخصوصا الجانب الحميمي الذي يتماشى مع رغبتي في محاكاة الذات الإنسانية والغوص في سواكنها ودواخلها ومكنونها.
لطالما كنت راغبا في تسليط الضوء على الصراعات اللامتناهية التي نخوضها مع ذواتنا ونسعى دائما الى التهرب منها وهي أفكار وجدتها في كتابات بنتر التي دفعتني إلى الغوص في غمار هذا الطرح الفني الذي يتطلب إيقاعا وروحا مختلفين. وهو ما دفعني لاحقا لإنجاز “نهير خريف” و”تطهير” و”جرائم زوجية” وهي أعمال انبنت أساسا على الاقتصاد في الحركة والهدوء الكبير والايقاع البطيء والصمت الذي يمتد أحيانا لفترات طويلة وهو ما يميز طبيعة هذه الأعمال المستوحاة من كتابات هارولد بنتر. وفي الواقع رغم طبيعة هذه الأعمال تمكنت من استقطاب جمهور يرغب في مثل هذه الأعمال.
من الضروري أن تتم برمجة كل عمل مسرحي حسب رؤيته وطرحه ومواصفاته الفنية والتقنية وملاءمته مع الجهة أو الفضاء التي سيتم فيها العرض وهو عكس ما نلاحظه في العديد من الأحيان
يقال وراء كل رجل عظيم امرأة. وفي المسرح هل يجوز القول وراء كل مخرج ناجع ممثل مبدع والحال أنه هو أداة الوصل بين المخرج والنص من جهة وبين المخرج والجمهور من جهة أخرى علما وأن الملفت في أعمال محمد علي سعيد هو تعويله في معظم أعماله على “الثلاثي المقدس” ناجي قنواتي، حمودة بن حسين ومريم قبودي ؟
هذا مما لا شك فيه. لكن فقط للاشارة قبل الحديث عن الثلاثي وجب التنويه بالثنائي توفيق البحري (رحمه الله) ونورهان بوزيان في تجربة “نهير خريف”, وهي تجربة مهمة مع فنانين كانا يحملان هواجس فكرية وفنية ساهمت بالارتقاء بمستوى العمل وتقديمه في أحسن حلّة. وهو ما دفعني الى خوض غمار تجارب جديدة مع فنانين ليست لي بهم سابق معرفة اكتشفتهم في مسرحية “تطهير”. وهم ناجي قنواتي وحمودة بن حسين ومريم قبودي. وفي الواقع كان التعامل مبنيا على التفاهم السريع والتفاعل التلقائي بين المخرج والممثل. ولعل العامل الأهم والفارق في حرصي على مواصلة العمل مع الفريق نفسه هو الإيمان المشترك بقيمة المشروع والرؤية الفنية.
على عكس العديد من الفنانين، محمد علي سعيد ترك أضواء العاصمة واختار المرابطة في جهته ونحت مسيرته انطلاقا من مدينته القلعة الكبرى ؟ لماذا هذا الاختيار ؟
بقائي في الجهة تأسس من منطلق قناعات معينة لعل أهمها رغبتي في أن أكون في خدمة الجهة وأن أطور الفعل المسرحي وأن أحدث تغييرا في المشهد الثقافي. كنت أراهن من خلال جميع التظاهرات التي احتضنها مسرح كورتينا مثل “مسرح 100 كرسي” أو تظاهرة “ايام كورتينا لسينما الطفل” أو “أيام كورتينا لمسرح الطفل” على استقطاب الجمهور من أبناء الجهة ودفعه إلى حب المسرح والسينما والإقبال التلقائي على مشاهدة الأعمال الفنية. لكن اليوم أقر جازما أن الأمر اصبح أكثر صعوبة وربما يدفعني الى اتخاذ قرارات صعبة.
من قبيل ماذا ؟
ربما غلق مسرح كورتينا وهو فكرة تخامرني بإلحاح بالنظر إلى العديد من المتغيرات والتأثيرات المادية والفنية والاجتماعية والنفسية وغيرها.
وكأني بك تقر بالفشل رغم الكم الهائل من النجاحات على المستوى الفني ؟
نعم أقر بأني فشلت في المراهنة على نجاح المشروع في جهتي على الأقل بالطريقة التي رسمتها في ذهني. لأن مشروع مسرح كورتينا لا يمكن له أن يتواصل من فراغ في غياب الدعم المادي والمعنوي. ذلك أن جل التظاهرات التي يحتضنها مسرح كورتينا لم تحض تقريبا إلا بدعم وزارة الشؤون الثقافية من خلال العروض المدعومة. للأسف نحن بصدد الدوران داخل حلقة مفرغة في غياب إيمان بقية الأطراف بهذا المشروع الفني الذي يعتبر مشروع كامل الجهة وليس مشروعا شخصيا ولا حكرا على محمد علي سعيد لوحده. هو واجهة لمدينة القلعة الكبرى فنيا وثقافيا.
نتحسس من كلامك شعورا بالظلم أو ربما بالغبن. هل أصبح محمد علي سعيد غريبا في أهله ؟
نعم أشعر بأني ظُلِمت كثيرا بل بتُّ أشعر أن هذه المدينة أصبحت غريبة عنّي. لم تعد تشبهني. ليست تلك المدينة التي عهدتها وخبرتها. ليست الجهة التي عشقتها وتُيِّمت بشوارعها وأزقّتها. المدينة تغيّرت تماما بسبب وجود العديد من العوامل التي ربّما لا يتسع المجال لذكرها. ومن هنا أوجه رسالة مفادها أن القلعة الكبرى في خطر على عدة مستويات منها ما هو ثقافي واجتماعي واخلاقي وانساني. حالة التخبّط والفوضى التي تعيش على وقعها المدينة من شأنها أن تفقد فينا الإيمان بمواصلة هذا المشروع-الحلم. للاسف الشديد أشعر الآن بقلق وجودي كبير.
أقر بأني فشلت في المراهنة على نجاح المشروع في جهتي على الأقل بالطريقة التي رسمتها في ذهني. لأن مشروع مسرح كورتينا لا يمكن له أن يتواصل من فراغ في غياب الدعم المادي والمعنوي
لكن القلق عادة ما يمثل الأرضية الملائمة الخصبة للإبداع الفني ؟
هذا أكيد. لكن هناك ظروف أخرى تدفعني منذ مدة للتساؤل حول الجدوى من الفعل المسرحي الذي أمارسه منذ أكثر من ثلاثة عقود. ابحث إلى حد الآن عن إجابات ويجب أن أجد ما يطفئ نار هذه الحيرة التي تتملكني حتى يمكنني المواصلة.
ربما تتحدث عن المواصلة كمخرج أو كصاحب فضاء مسرحي. وماذا عن محمد علي سعيد الممثل ؟ هل من الممكن أن نراك تعتلي خشبة المسرح من جديد ؟
إن شاء الله. لكن صدقا نسيت أني ممثل بالأساس من فرط مراكمة التجارب الإخراجية والاشتغال على تطوير مسرح كورتينا وغيرها من المشاغل الأخرى. وكأني بك تقرأ ما في داخلي لأني في حقيقة الأمر لطالما راودتني هذه الفكرة منذ فترة. أنا لست من الفنانين الذين يستعجلون القيام بالأعمال الفنية لمجرد تحقيق رقم جديد يحسب في قائمة أرصدتهم الفنية. أنا من الفنانين الذين يتحينون الفرصة الحقيقية لإنجاز عمل في حجم هذا الانتظار. ربما تكون عودتي الى الركح قريبا اذا سنحت الفرصة لتقديم عمل مهم لأن هدفي ليس ماذا سأفعل ولكن ما هو مستوى العمل الذي سأقدّمه لجمهوري.
على عكس العديد من الفنانين من أبناء جيلك، لم تكن لك تجارب تلفزية متعددة. ما مردُّ ذلك ؟
شخصيا لا تستهويني التلفزة على الرغم من النجاح النسبي للدور الذي قدمته في مسلسل “الحمامة والصقيع” للمخرج الراحل نور الدين شوشان وهو من إنتاج التلفزة الوطنية 1998. ورغم أني تلقيت بعض العروض للمشاركة في أعمال تلفزية إلا أن ردّي كان بالرفض دائما لأني أعتقد أن المسرح هو العالم الحقيقي الذي يمكنني أن أبدع فيه ناهيك أن لدي حرية الاختيار وأخذ القرار وهو ما لا يمكن توفره في العمل التلفزي من موقعي كممثل.
أشعر بأني ظُلِمت كثيرا بل بتُّ أشعر أن هذه المدينة أصبحت غريبة عنّي. لم تعد تشبهني. ليست تلك المدينة التي عهدتها وخبرتها. ليست الجهة التي عشقتها وتُيِّمت بشوارعها وأزقّتها.
من هو الكاتب المسرحي الذي تستشف في أعماله تقاربا أو ربّما تماهيا مع أفكارك ورؤاك الفنية ؟
هو قطعا معز حمزة الذي كتب “جرائم زوجية” و”عقاب جواب”.
من هو الممثل الذي ترى أنه نجح في تطويع الدور كما رسمته له تماما ؟
في الحقيقة الأمر مرتبط بقدرة المخرج على “تطويع” الفنان حتى ينسجم تمام الانسجام مع الدور الذي سيتقمّصه. هذا يتوقف على قدرة المخرج على توظيف مهارات هذا الفنان لتجسيد الأفكار أو الرسالة التي أردت عبره تبليغها. يمكن الحديث هنا عن ناجي قنواتي وحمودة بن حسين.
علمنا أنكم تستعدون لإنجاز مشروع مسرحي جديد مع هذا الثنائي تحديدا. ماهي ملامحه ؟
صحيح نحن الآن بصدد الاستعداد، بدعم من وزارة الشؤون الثقافية، لخوض تجربة جديدة بعنوان “ميت … حي” دراماتورجيا وإخراج محمد علي سعيد. وهذه المسرحية هي اقتباس عن La Vengeance du pardon”” لإيريك إيمانويل شميت. وسيشهد هذا العمل الجديد مشاركة الفنانة ميساء ساسي بالإضافة إلى الثنائي الذي ذكرت ناجي قنواتي وحمودة بن حسين فيما عُهد الإعداد الكوريغرافي لآمال العيوني.