“البحث عن الياسمين”، مونودراما للمخرج والممثل المسرح ناصر العكرمي تتشابك فيها الذات بالوطن، وتتقاطع العزلة بالتاريخ الجماعي على إيقاع رحلة تأملية لشاب اختار الانسحاب من صخب الحياة.
على ركح مسرح المبدعين الشبان، تسلح العكرمي بكرسي وطبل وأوراق وميكروفون في محاولته النبش في الواقع التونسي وتصدير تحولاته وتناقضاته منذ زمن ما قبل الثورة.
من حكاية شاب يحاول عبثا التخفف من ضغوط الحياة والانغماس في رسالة الدكتوراه على تخوم البحر حيث تتشكل مساحة للتفكير والتفكر وتتدافع الظواهر المجتمعية تباعا.
ومع تقدم الأحداث في المسرحية تظهر إحالات كثيرة على الواقع المأزوم حيث تعيش فئة من المواطنين حالة انسحاب رمزية تجلت في العزوف عن المشاركة في الحياة العامة وفي فقدان الثقة في المحيط المضيق والموسع.
وفيما تترنح الشخصية التي تتخذ أكثر من ملامح وأكثر من اسم بين التمظهرات الفلسفة والسطحية وتتأرجح بين الجد والهزل تتواتر مؤشرات الهجرة إلى الذات، الانكفاء عليها والقطع مع المحيط العام، سياسيا واجتماعيا وثقافيا.
في مشاهد كثيرة، يبدو حضور البحر صارخا حتى تخاله أنيسا للشخصية المتقلبة في حاضرها وذكرياتها ليتخطى بعده الجمالي والشاعري ويغدو مكونات دراميا يشحن العزلة لتولد الحوارات الداخلية.
وفيما تضاهي الأضواء الموج تظهر الاضطرابات الداخلية وتتهافت صور من التاريخ التونسي الحديث، أنى يحيل البحر إلى الهجرة، إلى الخلاص الفردي، إلى الموت أحيانا.
حالة التباس تامة على تخوم منطقة عبور غير نظامية تتعطل معها الذاكرة وتختلط المزمنة والأحداث وتتحول الرحلة الذاتية ألى سؤال جماعي عن الهجرة والغربة كفالات نفسية وذهنية.
مونولوغات داخلية لا تخلو من سلخ للواقع تسعى إلى الانغماس في فكرة “الانتماء” عبر سينوغرافيا تركن إلى الستار المتدلي، والضوء الذي يوحي بحفلة، وهي عناصر تؤسّس لمسافة نفسية بين الشخصية والعالم الخارجي.
عناصر بصرية تحاول أن تعكس المتغيرات الاجتماعية والسياسية في تونس ما بعد الثورة، حيث يعيش الكثيرون حالة من “التأرجح” بين الحلم والواقع، بين الطموح والخذلان، وبين الرغبة في التناهي والخوف من الذوبان.
الفضاء المكاني المختار ليس مجرّد مكان سكن مؤقت، بل استعارة عن فضاء داخلي هشّ، يحاول صاحبه ترميمه بالكتابة والصيد والأغاني لتتسرب منه لا معقولية الواقع، وعبثية بعض الطقوس الاجتماعية.
على إيقاع نص بسيط ينهل من اليومي ويعيد في بعض جوانبه صياغة المسلمات والكليشيهات تأخذ الشخصية مساحة لا متناهية للتعبير بأساليب مختلفة تلتقي عند الفردانية ولا يغيب عنها الجانب الجماعي.
من خلال الكوريغرافيا التي أوجدها قيس بولعراس، والسينوغرافيا التي صممها رياض التوتي، والموسيقى التي أعدها ذهبي مباركي، والأزياء التي شكلتها حنان الرياحي اتخذت رحلة البحث عن الياسمين أبعادا أخرى.
كل عناصر المسرحية دعمت الأداء الفردي وصبغته بمسحة جماعية من حيث التعبير عن الحالات النفسية والذهنية وبسط إشارات رمزية وإحالات على فصول من تاريخ تونس الحديث.