على خشبة مسرح القاعة المغطّاة بدار الثقافة، تفنّن الرباعي حمودة بن حسين وأصالة كواس وأميرة الحاجي وجيهان اللوز، ليلة أمس 29 ديسمبر ،2023 في امتاع جمهور مهرجان الزيتونة الدولي بالقلعة الكبرى من خلال آداء متميّز ومُتقن لمسرحية “العاشقات” للمخرج حاتم المرعوب والمقتبس عن نصّ “جريمة في جزيرة الماعز” التي كتبها الإيطالي أوغو بتي عام 1947.
في مكان مهجور انقطعت حوله كل السبل، اجتمعت ثلاث نساء : الأم والزوجة نورا، العمّة ليليا والبنت ليلي. هدوء قاتل وسكون موغل في الوحشة. لم يكن من الصعب على المشاهدين إدراك أن رائحة الموت تفوح من هذا المكان المقفر. فالظلام كان السّمة الطاغية على هذا العمل الموغل في البساطة سينوغرافيا من خلال اعتماد ألوان تميل بين السواد والبياض وأضواء تتفاعل مع حركة الممثلين ومع المشاعر التي تعتمل في صدورهم فتتوهج حينا وتخفت حينا آخر دون إغفال عنصر الفضاء البسيط بساطة نمط عيش هذه النسوة اللاتي تُركن وحيدات معزولات عن العالم في مكان وزمن غير محددين.
هن ثلاث نسوة كتمْن في صدورهن حقدا وكرها وثورة على الوضع الذي يعشنه. فالأم، زوجة البروفيسور العظيم الذي نبذه المجتمع بسبب أفكاره الغريبة، كانت ضحية غدره وخيانته بعد أن انعزل بها في مكان قصيّ من الأرض لينتهي مصيره في غياهب السجن. الأخت، فتاة جميلة حالمة، مُحبّة للحياة وعاشقة للرقص والمسرح والموسيقى والفن، سار بها قطار العمر إلى أن بلغ بها محطات متقدمة فأضحت تخشى على نفسها من زوال جمالها وفقدان روحها لألقها. الطفلة شابة، ذات شخصية هشّة ومرهفة الحسّ تعاني من اضطرابات نفسية كان غياب الأب السبب الأكبر وراءها.
ثلاث نساء كنّ يعشن في عزلة عن العالم قبل أن تتكدر حياتهن بقدوم رجل حرّك المشاعر الراكدة وألهب في صدورهن رغبات صارخة كانت الى وقت غير بعيد خامدة لكن بدرجات متفاوتة. انقلبت حياتهن مع القدوم المفاجئ لـ”دجو” صديق البروفيسور وزميله في الزنزانة والذي أوصاه بأن يحل محله في بيته. تحوّل السكون فجأة إلى أمل مفعم بالحياة، واليأس إلى أمل، والخوف إلى أمان، والظلام إلى نور، والموت الجاثم فوق صدورهن إلى حب للحياة لكن…. دجو لم يكن مجرّد رجل تحتاجه امرأة ليسكن مشاعرها الملتهبة أو ليطفئ رغباتها الصّارخة بل كان انعكاسا للأنا في روح النساء الثلاث. بين أمّ فقدت سندها وذبل عمرها وهاجت أشواقها، وعمّة حازت جمالا لم يٌقطف بعدُ ثمارُه، وبنت حُرٍِمت من عطف الاب وحنانه، وجد الرجل الغريب، الذي نجح في إيقاد نار مستعرة وصرعا محتدم، منفذا له ليحلّ محلّ الزوج مع كل النساء ويبسط سيطرته وجبروته الجسدي والمعنوي على ثلاث نساء منكسرات وخاضعات.
لكن الصراع المحتدم دائما وأبدا بين الأنا والأنا الأعلى، بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون وبين ما يجب أن لا يكون أو ما لا يمكن أن يكون، كان حاسما ليضع حدا لهذه المأساة الانسانية المتكررة في أعماق كل امرأة توّاقة للتحرّر من قيود “النموذج” وصيرورة الكون الأبدية التي تأبى إلا أن تضعها موضعا أقل من الرجل. نهاية الرجل المأساوية الذي ألقت به أكثر النساء خبرة وتمرّسا بشؤون الحياة في غياهب البئر السحيقة هي نهاية لهذه المأساة المتكررة. البئر الجامع بين الخوف واللامتوقع والمجهول والعمق والموت والحياة، كانت شاهدة على كل الجرائم التي ارتكبت في حق النسوة حيث كانت ملجأهن في وحدتهن ومناجاتهن. وهي البئر ذاتها التي دفن فيها سرّهنّ مع هذا الغريب المتوحّش الذي سرعان ما زعزع كيانهنّ وحوّلهن إلى قطيع ينهشه متى عنّ له ذلك.
فرغم توسلاته ومناجاته واعتمال الرغبة في صدور النسوة في إنقاذه حينا وخفوتها حينا آخر، إلا أن قمع هذه الرغبة الجامحة والجارفة كان المنفذ الوحيد لهنّ حتى يفزن ولو لحين بلذة نصر مؤقت على صيرورة الزمن القاسية. حيث كانت الجريمة الملاذ الأخير والمنفذ الوحيد للهروب من سطوة الشهوة وجنوح النفس عن طريقها واستعادة للحياة وللذات المنكسرة بفعل العشق الجارف الى عمق سحيق. عشق تحول بفعل الرغبة إلى استعباد وسلب للذات.