على ضوء الأحداث المتواترة في علاقة بملف المهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء تبدو تونس بمثابة طاولة التشريح ويبدو كل ما عليها قابلا للإصابة بسرطان الفوضى.
وبعيدا عن كل الآراء التي تترنح بين الهستيريا والمبالغة والسوريالية في بعض الأحيان، فإنه لا بد من وقفة تفكر لإيجاد حلول جذرية لهذه المسألة التي اتخذت شكل الأزمة في ظل غياب استراتيجية واضحة لتطويقها.
ولنتفق أولا ألا أحد يهرب من بلده إلا إذا اعتراه اليأس لأسباب كثيرة واستبدت به فكرة وجود الجنة في أوروبا وهو ما يسري على المهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء وأيضا المهاجرين التونسيين.
ولا يمكن الحديث عن تدفقات الهجرة غير النظامية دون الخوض في ما يرافقها من اتجار بالأشخاص وغيرها من الجرائم المنظمة التي توقع المهاجرين في شباكها وهو ما كشفت عنه شهادات عديدة.
بمعزل عن كل ما يحاوط عمليات الهجرة غير النظامية من حكايات تتبعثر تباعا ويستثمرها البعض لتبرير العنف ضد المهاجرين فإن السلطات التونسية اليوم ملزمة بحلحلة هذه الأزمة حتى لا تخرج الأمور عن نصابها.
ولا يخفى على عاقل أن تونس تمثل أرض عبور للمهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء وهي بوابتهم إلى الضفة التي تملكت أحلامهم وهم اليوم عالقون في مساحات ضيقة يتخبطون فيها على إيقاع هستيريا جماعية.
ومن غير المنطقي التعامل مع هذا الملف بنفس التمشي الحالي إذ برهنت المقاربة التي انتهجتها السلطات التونسية على فشلها إذ تحولت في مواقع كثيرة إلى حالة من الفوضى العارمة والتبس فيها الجلادون بالضحايا.
دوامة من العنف تتحسس طريقها إلى الملف ولا يمكن صدها إذا ما تواصل الحال على ماهو عليه اليوم، والتعقيدات تتزايد يوما عن يوما والضحايا يتهافتون ليتعطل العقل بين مهاجر ينشد ميناء سلام وتونسي افتكت أرضه في خضم الأزمة.
في ملف المهاجرين غير النظاميين تتشابك الأحداث ويتقاطع الضحايا ويطل العنف برأسه من بين الثغرات ولا سبيل للنجاة إلا بمقاربة تضمن حقوق الإنسان وتقطع الطريق على محاولات الإرباك وإثارة البلبلة.
كرة الثلج …
التعاطي مع ملف المهاجرين غير النظاميين من أفارقة جنوب الصحراء يحاكي كرة الثلج في تدحرجها والتحريض عليهم يتزايد يوما بعد يوم وسط تناول لا يخضع للعقل بل يحاكي عملية صب الزيت على النار.
ومع التصريحات المتتالية للنائبة في البرلمان فاطمة مسدي بخصوص الموضوع وزيارتها الأخيرة إلى هنشير بن فرحات، بمدينة العامرة بصفاقس، الذي بات مخيما للمهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء تصاعدت دعوات ترحيلهم.
المسدي وثقت صوتا وصورة وجود خیام خاصة بالرعاية الصحية وأخرى بالترفيه والسينما والمواد الغذائية والتجميل وصالون حلاقة ومسجدا مع توفر مولد كهربائي.
هذه الخيام توفر منطقيا وعقلانيا حاجيات ضرورية للاجئين عالقين في العامرة يواجهون الرفض في تجلياته المختلفة ولكنها تثير نقاشات مشحونة في أحيان كثيرة بالعنصرية على إيقاع الحديث عن تركيز دولة داخل الدولة.
الحديث عن استيطان المهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء في العامرة أثار جدلا واسعا ونعرة تمييز وعنصرية وصلت حد بعثرة هذه الخيام ومضايقة أصحابها، الأمر الذي قد يوسع دائرة العنف بتشتيت هذه الجموع وانتشارها في أماكن مختلفة يواجهون فيها المجهول.
المهاجرون غير النظاميون في وضعيات يندى لها الجبين إذ وصل الأمر حد إطلاق حملات لطردهم باستعمال العصي من قبل بعض المواطنين التونسيين في مشهدية تسيء إلى صورة تونس.
وفي صورة مشينة ظهر مجموعة من الأشخاص في حي الملاسين من حمام الأنف وهم بصدد مطاردة عدد من المهاجرين في انعكاس لأقصى تجليات العنصرية وحالة الانفلات.
وما حصل في حي الملاسين ليس سوى امتداد لسياسة التحريض وغياب خطاب عقلاني ورؤية واضحة لتطويق هذه المعضلة، خاصة وأن الإمعان في التضييق على المهاجرين قد يؤدي إلى انتشارهم وتنقلهم إلى أماكن مختلفة وتأجيج ردود الأفعال العنيفة.
وفي ظل غياب خطاب رسمي واضح، تتحدث معتمدية حمام الأنف عن كونها منطقة عبور على اعتبار أن بعض المهاجرين القادمين من صفاقس نحو العاصمة عبر القطار استغلوا توقفه بمحطة الإرسال حمام الأنف.
وفي سياق متصل أفادت المعتمدية بأن ما يروج حول إستقرار أفارقة جنوب الصحراء بمدينة حمام الأنف لا أساس له من الصحة، مؤكدة أن الموضوع محل متابعة من السلط المحلية و السلط الأمنية وقد تم ايقاف كل من تم رصده.
هذه الحادثة وطريقة معالجتها برهان آخر على أن انتهاج مقاربة أمنية فحسب لا يعدو أن يكون إلا حلولا ترقيعية لا تعالج جوهر الأزمة بل تشرع أبواب مشاكل أخرى في علاقة بالإيقافات وطاقة استيعاب المراكز.
زاوايا أخرى..
وعند غياب رؤية واضحة للدولة في ملف شائك ومتشعب مثل ملف الحال يسري الضرر ويتسع مداه فالخيام المنصوبة في العامرة وإن كانت ملاذا للمهاجرين غير النظاميبن فإنها تقع على ملك لعائلة بن فرحات التي ما انفكت تناشد السلطات لتمكينها من هنشيرها.
وفي تدوينة لاقت مشاركة واسعة من رواد موقع “فايسبوك” تحدث مالك الأرض أرسلان بن فرحات بحرقة عن طرده من أرضه من قبل المهاجرين غير النظاميين بعد أن أوصدت كل أبواب السلط دون تحقيق مطلبه في إخراجهم من أرضه.
ورغم الشكايات التي تقدم بها و رغم الوعود من العديد من المسؤولين الذين اتصل بهم بالتحرك وإخراج كافة المهاجرين الأفارقة من أرضه لم ينل أرسلان مراده، وفق حديثه.
مهاجرون عالقون في بوتقة مبهمة وصاحب أرض صار غريبا عنها انعكاسان لنفس المشكلة وهي الارتجال في التعاطي مع ملف مصيري وترك الأمور في مهب ردود الأفعال التي تكون في الأغلب عاطفية وشعواء.
ولم ينفك طيف واسع من التونسيين خاصة في الأماكن التي يوجد بها بالمهاجرون بأعداد كبيرة على غرار منطقة العامرة من ولاية صفاقس يطالبون بترحيل المهاجرين غير النظاميين ويتذمرون من مآلات الوضع ومن تعاطي السلط معه.
وإثر الزيارة الأخيرة للنائبة فاطمة المسدي للعامرة اعتبرت أن المخيمات دولة داخل الدولة ودعت رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى زيارتها لتتواتر الأحداث إثر ذلك وتتعالى الأصوات مطالبة بإيجاد حلول جذرية خاصة بعد تفكيك الخيام وبلوغ الاحتقان ذروته بين السكان المحليين والمهاجرين.
في السياق ذاته، اعتبر الناطق الرسمي لحزب حراك 25 جويلية عصام بن عثمان أن “هناك دُويلة داخل الدولة في جبينانة والعامرة وما يحدث هو بداية استيطان”، قائلا إن حقوق الإنسان في تونس مضمونة ولكن القانون يجب أن يكون فوق الجميع.
وتوجه، عبر موجات الإذاعة الوطنية بنداء عاجل للسلطات من أجل وضع حد لكل التجاوزات خاصة في العامرة وجبنيانة من ولاية صفاقس داعيا إلى ضرورة إيجاد حل جذري ونهائي لموضوع المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء.
ومن المنتظر أن يقدم حزب حراك 25 جويلية جملة من المقترحات إلى البرلمان من بينها اقتراح تجميع المهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء في مخيم كبير والقيام بالاتصالات الديبلوماسية اللازمة من أجل ترحيلهم إلى بلدانهم.
البعد الديبلوماسي لملف المهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء مثل أيضا محور حديث القيادية بحزب التيار الشعبي مباركة عواينية البراهمي التي أكدت أنه كان يُفترض عقد قمة إفريقية تجمع كل الدول والأطراف المعنية لإيجاد حلول لأزمة المهاجرين.
وفي سياق متصل تساءلت على موجات الإذاعة الوطنية، ” ماذا فعلت الدولة لهؤلاء هل اتصلت ببلدانهم وحصرت جنسياتهم؟ هل اتصلت باابلدان المجاورة في محاولات لإيجاد حلول مشتركة؟”
وشددت على أهمية العمل السياسي والديبلوماسي لتفادي وصول الأمور لما هي عليه اليوم، محذرة من الدخول في مرحلة ردود الأفعال واستعداء المهاجرين الذين هربوا من جحيم بلدانهم بحثا عن مستقبل أفضل.
وأشارت إلى أن وضعهم يحاكي وضع المهاجرين التونسيين في إيطاليا فكلاهما ينشد الأفضل، مضؤفة ” لكن حظهم العاثر جعلهم يعالقين هنا ولا يمكنهم المرور إلى الضفة الأخرى.
كما استنكرت بعض دعوات استعداد المهاجرين من قبل بعض الشخصيات العامة ، قائلة ” أزمة المهاجرين لا تشمل تونس فقط ولكن تونس ليس لها الإمكانيات لتوفير متطلباتهم”.
وحديث البراهمي يحيل إلى دور المجتمع المدني والمنظمات الدولية في تطويق هذه الأزمة وهو ما ينتفي اليوم في خضم الإيقافات التي شملت عددا من النشطاء في هذا المجال وكبلت آخرين خوفا من مغبة الإيقافات أو التتبعات العدلية اليوم.
مقاربة شاملة..
والوضع اليوم يحتم مقاربة شاملة بوصلتها حقوق الإنسان تتشارك فيها كل الأطراف المتداخلة من سلطات ومنظمات ومجتمع مدني بعيدا عن الحلول الترقيعية التي قد تفضي إلى مآلات غير محمودة.
وكان وزير الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج محمد علي النفطي قد تطرق، خلال لقاء جمعه برئيس بعثة المنظّمة الدّوليّة للهجرة بتونس عزوز السّامري، إلى حصيلة برنامج العودة الطّوعيّة خلال سنة 2024 والثلاثي الأوّل من سنة 2025.
وشدد الوزير، في اللقاء الذي يأتي في إطار متابعة تنفيذ برامج التّعاون مع المنظّمة الدّوليّة للهجرة في مجال العودة الطّوعيّة والآمنة لفائدة المهاجرين غير النّظاميّين، على أهميّة تظافر الجهود ومواصلة التّنسيق بين جميع الأطراف المتدخّلة، بما يُساهم في نجاح البرنامج في جميع مراحله.
كما دعا الوزير إلى تكثيف الحملات التّوعويّة في صفوف المهاجرين غير النّظاميّين للتّعريف ببرنامج العودة الطّوعيّة وبما يُوفّره من إمكانيّات لإعادة إدماجهم في بلدانهم الأصليّة، والتي تقوم بها بعثة المنظّمة الدّوليّة للهجرة بانتظام حسب إفادة رئيسها الذي أثنى على التّنسيق المحكم القائم مع الجهات التّونسيّة المختصّة.
وذكّر الوزير، في هذا السّياق، بموقف تونس الرّافض لأن تكون دولة عبور أو توطين للمهاجرين غير النّظاميّين، وبحرصها على أن تتمّ العودة إلى بلدان الأصل بصفة طوعيّة وآمنة على نحوٍ يحفظ الكرامة البشريّة ويتوافق مع التزاماتها الدّوليّة ذات الصّلة.
ولا يمكن الحديث عن مقاربة شاملة دون التطرق إلى دور الإعلام إء النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة إلى تقديم خدمة إخبارية تساهم في توفير المعلومات الضرورية في موضوع المهاجرين غير النظاميين في تونس.
واعتبرت النقابة أن هذا الموضوع أصبح قضية رأي عام بامتياز، وقضية مركبة يتقاطع فيها الاجتماعي والإنساني والأمني ويتداخل فيها الوطني والإقليمي والدولي.
وذكرت، في بيان، أنّها رصدت عددا من الإخلالات في التغطية الصحفية لأزمة المهاجرين غير النظاميين “يرتقي بعضها إلى انحرافات صحفية”، ملاحظة أنّ هذه الأزمة خلقت حالة من الرعب و الهلع لدى المواطنين “تغذيها بشكل أساسي موجة كبيرة من الأخبار المضلّلة والخاطئة والمزيفة التي تكاد تمثل حملات تضليل معلوماتي منظمة وحملات دعائية هدفها الأساسي التلاعب بعواطف التونسيين ومنعهم من الاطّلاع على مجريات الأمور وأبعادها المختلفة وسياقاتها الدولية والإقليمية والوطنية والمحلية”.
وشدّدت في هذا الإطار على ضرورة أن تخضع التغطية الإعلامية لقضية الهجرة غير النظامية إلى مقاربة قائمة على التوازن تُعطى فيها الكلمة لكلّ الفاعلين بما في ذلك المجتمع المدني المعني بهذه المسألة.
أرقام تستدعي التأمل..
في جانفي الماضي نظم مجلس نواب الشعب يوما دراسيا بشأن الهجرة غير النظامية في تونس، كشف خلاله رئيس لجنة الھجرة غير النظامية ومدير مركزي بالتفقدية العامة للحرس الوطني العميد خالد بن جراد عن وجود أكثر من 20 ألف مھاجر غير نظامي بجھة العامرة (ولاية صفاقس)، حسب إحصائيات المنظمة الدّولية للھجرة سنة 2024.
في سياق متصل، أشار بن جراد إلى أن حصر أعداد المھاجرين غير النظاميين من دول إفريقيا جنوب الصحراء بصفة دقيقة “غير ممكن حاليا”، نظرا لتغيّر المعطيات عند الدّخول الى تونس والخروج منها.
ولاحظ العميد أنّ المھاجرين غير النظاميين من دول إفريقيا جنوب الصّحراء غالبا ما يدخلون إلى تونس عبر الجزائر، مشيرا إلى وجود أكثر من 22 جنسية لمھاجرين غير نظاميين في تونس.
وصرح بأنّ عدد المهاجرين غير النظاميين الموجودين في ليبيا يبلغ المليون مھاجر، في حين تضم الجزائر 250 ألف مھاجر، حسب إحصائيات الوكالة الأوروبية للحدود، مبينا أن المجھودات الأمنية مكّنت من تقليص نسبة تدفق ھؤلاء المھاجرين نحو تونس إلى 64 بالمائة في سبتمبر 2024، والتقليص من نسبة الدخول عن طريق البرّ بنسبة 84 بالمائة خلال الثلاثي الأخير من سنة 2024.
كما أفاد بأنه تمّ ضبط 80 ألف مجتاز السنة الماضية وإزالة 96 مخيّما والقبض على 15 شخصا من المھاجرين غير النظاميين بشبھة الارھاب، مضيفا أن عدد قضايا الاتجار بالبشر بلغت 64 قضية في السنة الماضية انجرّ عنھا إيقاف 88 شخصا.
وتم تسجيل 40 قضية في ورشات عشوائية وغير مرخص لها لصنع القوارب، الى جانب إيقاف أكثر من 2080 شخصا في صفوف المنظمين والوسطاء في عمليات الھجرة غير النظامية، وفق حديث العميد بن جراد.
من جھتھا، قالت أحلام الھمامي المديرة العامّة للمرصد الوطني للھجرة (تابع لوزارة الشؤون الاجتماعية)، إنّ 22 بالمائة من سكان إفريقيا يعيشون تحت خطّ الفقر، بسبب الكثير من العوامل من بينھا الحروب والصراعات والتّغيرات المناخيّة.
وأشارت الهمامي، في اليوم الدراسي المخصص للهجرة غير النظامية إلى أن التعاطي الدّولي مع هذه الظاھرة يتجه عموما نحو الحلول الأمنية رغم الاقتناع بمحدودية جدواھا وفاعليّتھا.
وأكّدت أن هذه الظاھرة أصبحت موضوع حوار مجتمعي وطني ودولي واقليمي، وأقرّ المجتمع الدولي بأنّ مسؤولية الھجرة غير النظامية هي مسؤولية مشتركة بين مختلف الدّول، (دول المصدر ودول الاستقبال ودول الاستقرار).
واعتبرت أن إقرار الدّول الكبرى وخاصّة الأوروبية منها بهذه الظاهرة يعدّ مكسبا مھمّا جدّا للدّول النّامية، رغم أنه غير ملزم قانونا (في إشارة الى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المعلن عنه في 19 ديسمبر 2018 بخصوص الاتفاق العالمي من أجل الھجرة الآمنة والمنظمة والنظامية).