تتأمل منيرة نباتات وأشجار مزرعتها الصغيرة بأحد ارياف معتمدية برج العامري من ولاية منوبة، بعينين تلمعان وهجا و شغفا، تنحني بين الحين والاخر لتقتلع الأعشاب الطفيلية ملامسة التراب باصبعها، ومستنشقة اريج الأرض الممزوج برائحة الماضي والأجداد، وعبق التاريخ الجميل.
أحيلت منيرة ضيف الله، التي يفوق عمرها ال60 عاما، على التقاعد من وظيفتها في مجال النهوض الاجتماعي في فرنسا، وعادت الى بلدها تونس بعد سنوات من الحنين لعادات ماضيها وتقاليده في شتى المجالات، ولهدوء الحياة وسكينة الريف ونكهات الأكلة التونسية الأصيلة.
اختارت الفلاحة البيولوجية أو “فلاحة الأجداد” كما يحلو لها ان تسميها، كنمط انتاج بيئي خال من الأدوية والأسمدة الكيميائية والنباتات المعدلة وراثيا، مع الاعتماد على البذور التقليدية.
باتت الزراعات الأقل استهلاكا للمياه، وجهة الفلاحين ومنهم منيرة، وخيارهم المستقبلي، وذلك مع تراجع نسبة إمتلاء السدود (بـ 34,2 بالمائة من إجمالي قدرتها وفق معطيات المرصد الوطني للفلاحة)، وفي ظل تأثيرات الاحتباس الحراري وشحّ الأمطار، وخطر الجفاف (الذي تكشف عنه التقارير والدراسات، ومنها دراسة معهد الموارد العالمية في 2015، والتي تصنف تونس ضمن 33 دولة في العالم الأكثر عرضة للإجهاد المائي والنقص الكبير في الماء بحلول عام 2040) .
لم تقتصر منيرة على زراعة شتى أنواع الخضروات والنباتات والأشجار المثمرة بأرضها البيولوجية (المصادق عليها)، بأساليب وببذور تقليدية تقوم بانتاجها بنفسها، بل انخرطت في مساعي إحياء التقاليد الزراعية التي يخوضها عدد من الفلاحين التونسيين في السنوات الأخيرة.
توجهت إلى زراعة الحبوب المقاومة للجفاف والشح المائي والأمراض، على غرار القمح التقليدي التونسي “المحمودي” وهو فصيلة تتميز بملاءمتها لكل تغيّرات المناخ وبقدرتها على تحمل الجفاف والرطوبة وانخفاض درجات الحرارة وقدرتها على مجابهة الأمراض، ثم شعير “الطمباري”(بدون قشرة)، الذي تحوله مع طحين القمح الى حلويات لذيذة وماكولات تقليدية يقبل عليها ضيوفها بإقامتها الريفية.
نجحت أيضا في تجارب زراعة نادرة بتونس مثل “الكينوا ” ذات الأصول الامريكية، والمتميزة بتأقلمها مع المناخ المتقلب والظروف البيئية القاسية، كالجفاف وملوحة التربة والماء والأمراض والطفيليات، وذات الفوائد الغذائية الكبيرة وخاصة لمرضى حساسية القمح والسكري وغيرهم..
خاضت منيرة ايضا تجربة زراعة الحنطة السوداء ” SARRASIN”، الخالية من الغلوتين وذات الفوائد الغذائية الهامة، مستعملة المياه فقط وبكميات بسيطة، مع أساليب المداواة التقليدية على غرار ماء حبوب الحلبة، مع الحرص على تحقيق كافة شروط الإنتاج البيولوجي، ومؤمنة بان العودة إلى الجذور هي خطوة للأمن الغذائي والصحة والاقتصاد في مياه الري.
تتنوّع منتوجاتها لتزيّن طاولات الأكل، باطباق مأكولات تقليدية، وحلويات بنكهات مختلفة، ومعجون مختلف الغلال، وشرائح الغلال والطماطم المجففة والعصائر، التي تخزّنها بطريقة الإفراغ من الهواء وتحتفظ بها في ظروف صحية، املة تحصيل مزيد فرص التسويق، امام نقص الوعي الاستهلاكي باهمية هذه المنتوجات التقليدية البيولوجية، وانعكاسها الايجابي على الصحة وعلى البيئة، وفق قولها .
تؤكد منيرة انه لا يوجد اي هدف تجاري من وراء تجربتها، وأن ما تقوم به نابع من إيمان في العمق بأهمية الفلاحة التقليدية والتغذية الصحية، وان جنيها لمحصولها ولو بكميات قليلة، من الزيتون واللوز ومختلف الغلال والخضر والعسل، الذي لا يخلو جمعه من لسعات النحل، هي لحظات الاستمتاع القصوى التي تشعر بها.
لحظات تعيدها الى الزمن الماضي، حيث ترتوي الأرض العطشى بقطرات عرق الكادحين الذين يحولون أديمها اليابس الى جنان مثمرة، وتقودها الى التمسك بشدة بدروس ذلك الزمن،كملاذ أخير لمواجهة القادم من تهديدات للتنوع البيولوجي والأمن.
المصدر: وات