هديل الهمامي_في أولى سهرات الدورة العاشرة لأيام قرطاج الموسيقية، عاش مسرح الأوبرا لحظة ساحرة مع فرقة “طرباند ” (TARABAND) القادمة من السويد، محمّلة بروح الموسيقى العربية التي تمزج بين الألم والأمل.
ليلة بلا حدود، جمعت أصواتًا من السويد، العراق، ومصر لتروي حكايات تلامس القلوب بجمالها وصدقها.
موسيقى تحكي قصصًا إنساني
فرقة “طرباند” ليست مجرد فرقة موسيقية؛ إنها مشروع فني يحمل في طياته رسائل إنسانية عميقة. أغانيهم تتناغم كقصص قصيرة. من بين هذه الأغاني، تميزت “صديقي” التي تناولت موضوع الحب والخسارة، و”مكان” التي جسدت حنين اللاجئ إلى وطنه، و”ملوخية” التي أضفت على الأمسية لمسة من الفكاهة والمرح.
لم يكن الحفل مجرد أداء موسيقي، بل كان احتفالًا عراقيًا حقيقيًا في تونس، حيث امتلأت الأجواء بالبهجة، وتفاعل الجمهور مع كل لحن وكأن كل واحد منهم يحمل في قلبه جزءًا من العراق وتاريخه.
وتتألف الفرقة من مجموعة موسيقيين مبدعين، يمزجون بين الموسيقى التقليدية والأنماط الحديثة ؛ نادين الخالدي التي تنقلنا بصوتها إلى شوارع العراق وتاريخها مع عزفها المبدع على العود، بينما إلياس عطار يضيف لمسة من الحنين مع الكمان.
ويضخ هينريك نيترسون الحياة في الحفل من خلال إيقاعه المتناغم، في حين يضفي بيتر هيلستروم على الألحان أبعادًا جديدة مع عزفه على الجيتار فيما يضفي حسام محمود، الطابع الشرقي الأصيل من خلال الطبلة والدربوكة.
رحلة نادين: من بغداد إلى السويد
خلال الحفل، شاركت نادين جمهورها لمحات من رحلتها الشخصية التي بدأت من بغداد، حيث اضطرت هي وأختها إلى مغادرة العراق كلاجئتين في ظروف قاسية بحثًا عن الأمان، حتى استقرتا في السويد. بعيون يملؤها الحنين، تحدثت نادين عن تلك الأيام التي شكلت حياتها وقصصها. كانت كلماتها حقيقية ومؤثرة، خاصة عندما تحدثت عن العلاقة القوية التي تجمعها بوالدتها الراحلة، والتي ألهمتها لكتابة العديد من الأغاني. بعبارة صادقة قالت: “أحيانًا الحب الزائد قد يقتلك”، في إشارة إلى عمق المشاعر التي حملتها والدتها لها، وكيف كانت تلك العلاقة مزيجًا من الحب والقوة.
مع تصاعد الإيقاعات والألحان، وخاصة مع أداء أغنية “بغداد شوبي”، امتلأت القاعة بالحماس والتفاعل، حيث كانت الأجواء تنبض بالفرح، ولكنها حملت أيضًا رسائل أعمق. وسط هذه الأجواء، كان العلم الفلسطيني حاضرًا، شاهدًا على أن المقاومة ما زالت مستمرة، وأن الأمل في الحرية لا يزال حيًا في القلوب. وكأن الحفل نفسه كان احتفالًا بالوجود، حيث امتلأت القاعة بالرقص والزغاريد والتصفيق، مانحة الجمهور لحظات من السعادة الجماعية.
انسجام الموسيقيين وروح الفرقة
ما يميز مجموعة “طرباند” ليس فقط صوت نادين أو قصصها، بل الانسجام الواضح بين أعضاء الفرقة الذين جاؤوا من خلفيات موسيقية وثقافية مختلفة. هذا التناغم كان حاضرًا في كل أغنية، حيث انصهرت الآلات الموسيقية معًا لتشكل لوحة فنية فريدة. كان العود يروي الحنين، والكمان يضيف لمسة من الرومانسية، والإيقاعات الشرقية تضخ الحياة في القاعة. هذا الانصهار بين الأصالة والحداثة جعل من الحفل تجربة موسيقية فريدة من نوعها.
رسالة موسيقية بلا حدود
ليست هذه المرة الأولى التي تزور فيها الفرقة تونس؛ فقد شاركت منذ تسع سنوات في مهرجان سوسة الدولي، حيث تركت انطباعًا عميقًا لدى الجمهور. ومنذ ذلك الوقت، أصبح لديهم قاعدة جماهيرية محبة في تونس تنتظرهم بشغف. أثبتت الفرقة أن الموسيقى ليست فقط وسيلة للتسلية، بل هي لغة قادرة على التغيير، على جلب الفرح، وعلى توحيد القلوب رغم كل الفوارق.
كانت ليلة “طرباند” في مسرح الأوبرا شهادة حية على أن أيام قرطاج الموسيقية ليس مجرد مهرجان، بل مساحة مفتوحة للقصص الإنسانية، للتعبير الفني، وللاحتفال بالحياة بكل تناقضاتها. في تلك الليلة، غادرت الموسيقى حدود المسرح لتصبح جسرًا بين بغداد وتونس، وبين الماضي والمستقبل، وبين الألم والفرح.