في الطريق إلى مدينة الثقافة حيث يتشكل خلق فني يغازل الأرواح على أعتاب المهرجان الدولي للموسيقيين والمبدعين من ذوي وذوات الإعاقة “هاندي ميوزك” بدت التفاصيل المتناثرة عادية بل رتيبة.
لكن على مشارف المدينة تشكلت ملامح تحيل إلى ما هو أبعد من العادي على إيقاع توافد جمهور المهرجان المختلف حتى أن بعضها بدا سورياليا إذ تبدو مساحات كثيرة من الفضاء غير مؤهلة لذوي وذوات الإعاقة.
وفيما تتصدر شعارات دمقرطة الثقافة والثقافة للجميع الواجهات، إلا أن الواقع في علاقة لنفاذ ذوي الإعاقة إلى المهرجانات مؤسف ويوجع ويدفع إلى مساءلة كل التشريعات والقوانين والوعود المؤجلة.
حالة مبهمة قد تنتابك وأنت تبحث عن حق بسيط لمواطن حامل لإعاقة ولكنك سرعانما تتجاوزها حينما يطالعك متطوعو ومتطوعات جمعية إبصار التي تحدت كل الصعوبات لتكون الدورة السابعة.
المتطوعون والمتطوعات كانوا بمثابة الضمادات التي تحجب الجروح، يحاولون تلافي كل النقائص والصعوبات التي تواجه الفنانين المشاركين في المهرجان أو الجمهور، يطمسون عجز الدولة عن إيفاء حقوق مواطنيها المختلفين والابتسامة تعلو محياهم.
وفي البهو المؤدي إلى مسرح الجهات بدا المكان شبيها بالبرزخ الذي التقت فيه كل الأرواح المختلفة على قارعة الفن والإنسانية وعزفت موسيقى لا تفك شيفراتها غير القلوب المؤمنة بالاختلاف.
وفيما كان الركح يتهيأ ليتزين بحكايات ترويها النوتة والإعاقة والتحدي والشغف، تعالت الموسيقى الإسبانية في الأرجاء مؤذنة بانطلاق فعاليات المهرجان وعانق صوت الفنانة “Maria Dolores Gallego” وهي تجول بخامته العذبة بين نغمات الكلافيي التي يولدها العازف “Adrian Rincon Dominguez” إذ يداعب مفاتيحه.
وعلى إيقاع الفلامينكو تعانقت الأكف ودوى صدى صوتها مرافقا المغنية التي تعلم جيدا أن صوتها لا يحتاج عيونا ليخترق أرواح الحاضرين ويغازل قلوبهم وأرواحهم ويغويهم بالتمايل.
بعد رحال إلى إسبانيا، ولى الجميع وجههم شطر مسرح الجهات حيث سيخط الفنانون المشاركون في مهرجان “هاندي ميوزك” فصلا آخر في خصوصية هذا المهرجان متعدد الأبعاد والأثر يتحول معه الركح إلى رواية بلغة القلب.
بعيدا عن الكلمات الافتتاحية التي تأتي هي الأخرى مختلفة مليئة بالشغف والتحدي، رتبت الخشبة أنفاسها لتستقبل المختلفين الذين يفقهون الفن من رحم الحياة ويعيدون صياغة كل تفاصيله بحس مرهف لا تملك ألا أن تستسلم له.
على نسق شعار “الفن بلا حدود، الإنسان بلا حواجز”، لم يكن المهرجان الدولي للموسيقيين والمبدعين من ذوي وذوات الإعاقة مجرّد تظاهرة، بل مساحة مقاومة ناعمة، تُعلن فيها الأجساد التي اعتادها العالم على الهامش، أنّها قادرة على احتلال الضوء.
الضيوف جاؤوا من بعيد، من البرتغال وبولونيا، من ليبيا والعراق وسلطنة عمان وسويسرا وفرنسا والمغرب والجزائر وغيرها من البلدان ليحكوا أنفسهم بالموسيقى ويرسخوا حقهم في الخلق الفني.
وفي حضرة الفن تلاشى كل معنى للحدود، وتقلصت المسافة بين الحس والحواس، وتشكلت أكثر من رمزية على وقع النشيد الوطني بلغة الإشارة، لحظة كثيفة يتنافر فيها الموجود والمنشود.
وكمن يصعد درجا نحو قلبك يصعد الطفل محمد عزيز السريوي الحامل لإعاقة بصرية على الركح، دون رهبة دون ارتباك وكان حديثه مع البيانو كلمته الصافية.
كان يحمل روحه التي غنتها مفاتيح البيانو ما إن لامسها ومرت بين سيمفونية موزارت والمدونة التونسية التي استدرت أصوات الجمهور في القاعة، الجمهور النوعي الذي يجيد تقاسم المحبة.
بعد البيانو روى العود حكاياته حينما دغدغه الفنان محمود بن سالمة الحامل لإعاقة بصرية وترجمتها الفنان سمر شعبان الحاملة لإعاقة بصرية.
حينما يعلو صوت سمر شعبان في وصلة طربية أو أغنية تونسية تخفت الإضاءة على الركح لتبدو هي ورفيقها على الركح النور ويظهر وكأنهما يربتان على رأس وطن متعب ومثقل بآمال المختلفين.
“لا تدع أحدا يسكت صوتك ” كلمات لفظتها الفنانة البرتغالية ” Cristina Maria Guerreiro Afonso” بلغة أنجليزية واختزلت بها إيمانها بأن الفن لا يعرف الحواجز.
بصوت يتجاوز الجدران غنت بلغة قد لا يفهمها الجميع ولكن أداءها المفعم بالإحياس كفيل بأن يشدك إليها حينما تغني أو حينما تناجي البيانو في لحظة وصال.
من البرتغال إلى بلاد الرافدين، يتواصل الإسراء في عوالم حسية ووجودية تتكثف على إيقاع كلمات الفنانين واختياراتهم الفنية ويتغنى الفنان العراقي نزار كاظم بتونس بأغنية من ألحانه بعنوان “هذه وردة”.
بمهل فنان يعرف أن الموسيقى لا تحتاج استعجالا، عزف وهو يغني عن حاملي الإعاقة البصرية “صح مكفوف لكن أمشي وحدي” قبل أن ينغمس في إيقاعات عراقية تغوي بالرقص.
وإلى الروائع الأندلسية يحمل الفنان المغربي من أصول جزائرية سعد الدين الأندلسي الجمهور ويلقي به في ثنايا التاريخ والفن على وقع صوته المتزوج ببحة جذابة.
عازفا على البيانو يتماهى الأندلسي الذي استمد هذا اللقب من عشقه للموسيقى الأندلسية مع الكلمات التي تلتقي مع الموروث الأندلسي التونسي والتي تثبت مرة أخرى أن الفن لا يعترف بالحدود.
وحينما أدنى الفنان السويسري ” Jean Jacques Vuilloud” شفتيه من الفلوت تلاشت إعاقته البصرية وتوقفت معها الأنفاس لوهلة قبل أن تسترسل والعقل يحاول أن بفهم كيف يتحرك الحنين كلما تحركت أصابعه.
وكلما تسربت أنفاسه أكثر كلما تمادى الصمت والصخب وتناثرت الأحلام وتوقفت الحيلة فجأة عن الهرولة لنصغي إليه بما يكفي…
إلى عمق تونس حيث يدوي “الصالحي” سافر الثنائي محسن دباش وحمزة العرفاوي الحاملين لإعاقة بصرية وهبت الأصالة والسلطة دفعة واحدة وانهمر الفرح في صفوف الجمهور وتواترت الزغاريد.
غناء أصيل تتفتح معه القلوب وتتجلى فيه الطبيعة بكل عنفوانها وتتخذ قصص الحب التي تتشكل خلسة أكثر من عنوان فيما يسجل جمهور المهرجان فرادته.
ففي الجمهور تكونت فرقة موسيقية اختارت الآلات الإيقاعية أنيسا ورافقت أغلب العروض من محلها في مشهدية لا نراها في المهرجانات السائدة والمألوفة.
ومن قلب تونس إلى بولونيا التي وهبتنا صوتا ملائكيا طوعته الفنانة Patrycja: Malinowska” لتكتب به آمالا لم تولد بعد وتتكئ عليه في قلب الضوء لتُرى كما هي : صوت عذب يعرف طريقه إلى القلوب.
نبرة صوتها تبدو وكأنها تستحضر أرواحا قديمة، وكأنّها مرّت من داخل ذاكرةٍ تجيد تخزين الأحلام، وكأنها تعويذة تحول الندبة إلى وردة وتصنع من القنوت جسرا للعبور.
من البرتغال والعراق وسويسرا وتونس وبلونيا والمغرب، مرّ الفنّانون تباعًا، ولم يكن مرورهم على شاكبة العروض المألوفة بل بدوا كأرواح متأهبة للبوح تفصل مداخلات الإعلامية خلود مبروك بين وصلاتها.
وافتتاح المهرجان الذي يأتي ليغلي صوت المختلفين كان أيضا مناسبة للتكريمات التي لم تتوشح بالبروتوكولات واللغة الخشبية حيث نال السويسري “Luis Jésus Thomas Perez-Bayas” تكريما لتطوعه لتوثيق فعاليات المهرجان وقدومه من سويسرا لتونس خصيصا لذلك.
في سياق الاعتراف والعرفان انسحب التكريم على رئيس جمعية المكفوفين بمسقط من سلطنة عمان رائد بن عبد الحافظ بن حمدان الفارسي ذو الإعاقة البصرية الذي يقاوم من أجل الحق في كل شيء.
وفي لحظة تهافتت فيها مشاعر مختلطة نال النائب بمجلس الجهات والأقاليم علاء الدين غزواني تكريما سقطت معه ورقة التوت عن كذبة العدالة وحقوق ذوي الإعاقة.
فالنائب الحامل لإعاقة حركية لم يكن قادرا على النفاذ إلى الركح الذي تجاهل حاجيلت هذه الفئة وخصوصياتها على أمل أن يكون مهرجان “هاندي ميوزك” مساحة للنقد والمناصرة من أجل تهيئة الفضاءات العامة جميعها بما يتناسب مع كل الإعاقات.
وفي كل تفاصيله لم يكن المهرجان مجرّد منصّة فنية. كان إعلانًا ناعمًا بأن الكراسي المتحرّكة لا تُقعد الأغنية، وبأنّ العيون التي لا ترى، قادرة على رسم صور لا يقدر عليها المبصرون.
كان المهرجان موسيقى، وكانت الموسيقى إنسانًا لا يعترف بالحواجز في تجسيد لشعاره”الفن بلا حدود، الإنسان بلا حواجز” الذي بات عهدا تلاقي عنده كل الأرواح التي تؤمن بالاختلاف والفن فضاء لإبرازه.
هذا العهد توقّعه الأنامل على بيانو ينهل من الذاكرة، على وتر عود يرتجف كقلب ينبض على وقع صوت عذب قادم من بعيد، على قصبة تروي الآهات والحنين على ركح مهرجان صرخ فينا أن الفن ليس ترفا بل فعل مقاومة.
*الصورة من صفحة السفارة السويسرية بتونس وهي تدعم المهرجان