في ركن هادئ من أركان المدينة العتيقة بتونس العاصمة، وتحديدا بمكتبة دار ابن عاشور التابعة لمكتبة مدينة تونس القصبة، انطلقت تجربة ثقافية استثنائية، اختارت أن تكون جسراً بين الفن والمعرفة، بين الطفولة الحالمة والواقع القاسي. تجرب تشرف عليها الشاعرة والروائية الشابة دلال غزيل الحائزة على عدد من الجوائز الوطنية والدولية عن مؤلفاتها الموجهة للفئات الناشئة.
لا ترى دلال غزيل في هذه التجربة مشروعًا ثقافيًا فحسب، بل تعتبره مسؤولية أخلاقية وإنسانية قبل كل شيء. فقد أكدت في حديثها لـرياليتي أونلاين أنّ فكرة تأسيس نادي IT الإبداع الثقافي لم تكن وليدة صدفة، بل جاءت استجابة لحاجة مجتمعية ملحّة، خصوصًا في ظل ما تشهده البلاد من عزوف متزايد عن القراءة، وابتعاد واضح للأطفال عن عالم الكتاب والكلمة.
وأضافت أن النادي، الذي أُطلق رسميا في نوفمبر الفارط، يميّزه عن غيره من الفضاءات الموجّهة للطفل والمراهق كونه يجمع بين فئات عمرية متباينة، تتراوح بين خمس سنوات وسبعة عشر عامًا، ومن خلفيات اجتماعية مختلفة، لا سيما أولئك المنقطعين عن الدراسة أو القادمين من بيئات هشة، وهو ما يمنحه طابعًا فريدًا من التعدد والثراء.
وأضافت أنّها حرصت منذ البداية على كسر الحواجز النفسية بين المشاركين، فذكّرتهم بأنّ العائلة التونسية تضم الجد والجدة والعم والخالة والطفل الصغير، وكلهم يجلسون معًا على نفس الطاولة. السياق، أوضحت أن الفكرة المركزية التي انطلقت منها هي خلق مساحة يشعر فيها الطفل بالأمان و يزرع فيه الأمل، دون أن يُحكم عليه، ودون أن يُلزم بهوية ثقافية أو فنية واحدة، مشيرة إلى أنّ أغلب النوادي تقتصر على نوع واحد من الأنشطة، كالرسم أو الرقص أو الموسيقى، وتوجّه عادة لفئة عمرية محددة، في حين أنّ ناديIT الإبداع الثقافي كسر هذه القاعدة، وفتح المجال واسعا أمام جميع الهوايات، واحتضن كل طفل بما يحمله من طاقة كامنة، سواء كان قارئا نهما أو هاويا لكرة القدم.
وأكدت دلال غزيل أنّ أبرز ما لاحظته منذ انطلاق اللقاءات الأسبوعية بالنادي هو غياب الثقة لدى عدد كبير من الأطفال، لا سيما أولئك الذين تمّت تنميطهم اجتماعيًا بأنهم “فاشلون” أو “غير مجتهدين”، وهو ما جعلها تختار منهجا تربويا خاصا، قائما على تشجيع التعبير الحر، والانطلاق من اهتمامات الطفل نفسه.
فعلى سبيل المثال، اختارت أن تُدخل الأطفال عالم الكتابة من بوابة شغفهم، كحثهم على الكتابة عن نجوم كرة القدم المفضلين لديهم باللغة العربية الفصحى، في تمرين غير مباشر على حب المطالعة والكتابة والبحث. فابعتبارها روائية بالأساس، اختارت دلال غزيل أن تكون الكتابة فعل حياة، وأن تتحول الكلمة إلى وسيلة لبناء الثقة وزرع الأمل. وأضافت: “لم أكن أبحث عن النصوص المثالية، بل كنت أبحث عن الشغف الصادق، عن ذلك الحماس الذي يدفع الطفل ليعبّر عمّا يحب، بلغته الخاصة” التي سيتم صقلها عبر مراحل متجددة .
رأت دلال غزيل أنّ ما يُنجز داخل هذا النادي لا يمكن اختزاله في نشاط ترفيهي ظرفي، بل هو بناء تراكمي للوعي، وسعي حثيث لترميم ذوات هشّة معتبرة أن الثقافة لا يجب أن تكون امتيازًا طبقيًا، بل حقًا مشتركا بين جميع الأطفال، دون استثناء.
وقد أثمرت هذه المقاربة التربوية و التثقيفية المفتوحة بالتعاون مع مركب الطفولة بالحفصية نتائج ملموسة، كان من بينها تقديم عمل مسرحي جماعي حول القضية الفلسطينية، أعدّه الأطفال بأنفسهم، وشاركوا في كتابة نصوصه، واقترحوا مشاهده، وتقمصوا أدواره رغم قلة الإمكانيات. وعن ذلك، أوضحت المشرفة أنّ الأطفال أصرّوا على تمثيل المسرحية رغم غياب الأزياء المناسبة، فلجأ الفريق إلى المركز الثقافي الفلسطيني الذي لم يتوانَ في دعمهم ومنحهم ملابس تراثية استخدمت في العرض.
وأشارت دلال إلى أن هذا العمل الفني الجماعي لم يكن مجرد “نشاط اختتام”، بل كان تتويجا لفسيفساء الحوار والتعبير والكتابة والرسم، مؤكدة أن لحظة صعود الأطفال على خشبة المسرح وهم يرتدون الأزياء الفلسطينية، كانت كافية لتثبت لها أن شيئًا ما تغيّر في أعماقهم.
تؤمن دلال بأن اللغة العربية رغم ابتعاد الكثير من الشباب عنها، ما تزال قادرة على ملامسة الأرواح، إذا ما تم تقديمها بأسلوب يتماشى مع العصر من خلال تحيينها لإسم النادي فيما يتماشى مع لغة العصر من مزج بين تكنولجيا المعلومات و دمج لعدة هوايات دون اقصاء أو انتقاء. من هنا اختارت أن تُغيّر الاسم الرسمي للنادي من “نادي اللغة العربية” إلى “ناديIT الإبداع الثقافي”، كي لا يشعر الأطفال بأنهم داخل قاعة دراسية تقليدية، بل في فضاء إبداعي حر، تتواجد فيه حصص المسرح، الرسم، الغناء ,الرياضة و الثقافة المعلوماتية مع فتح ابواب النقاش، دون إكراه أو وعظ مباشر.
كما اعتبرت أن من حق كل طفل أن يجد مكانا يُشبهه، يحتضنه، ويدعوه للتعبير دون خوف من السخرية أو التنمر، مشيرة إلى أن العديد من الأطفال الذين التحقوا بالنادي، كانوا في البداية يرفضون تقديم أي عمل خوفا من النقد لكنهم مع الوقت بدأوا يتغيرون، ينفتحون، ويحاولون بكل ثقة في النفس.
وفي ختام لقاءها مع ريالتي أونلاين، عبّرت دلال غزيل عن أملها في أن لا تظل هذه التجربة بين جدران مكتبة دار ابن عاشور، بل أن تنتقل إلى فضاءات أخرى، وتُحتضن من قبل مؤسسات تؤمن بأن الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء مواطن سليم.