على امتداد الرحلة من العاصمة تونس إلى الكاف تستبد بك حالة من النيرفانا، تنعتق أصوات المعاناة في أعماقك وتتخفف من أعباء الواقع، تغازل عيناك قطع الجنة المتناثرة يمينا وشمالا وتتوشح بين الفينة و الأخرى بفيض من النسمات يزهر على وقعها “نوار الملح”.
“نوار الملح” مهرجان بعثته وزارة الشؤون الاجتماعية انتصارا لفئات يصعب عليها النفاذ إلى العروض الفنية ليحط الرحال في يومه الثاني في الكاف تحديدا في المعلم الأثري بالقصبة بعد افتتاح في مسرح قرطاج الأثري.
وفيما نسمة الكاف تداعب وجنات جمهور المهرجان أسدل الليل ستاره على ملامح القصبة فبدت متوهجة كحبيبة التقت عيناها بعيني حبيبها وارتسمت ابتسامتها في السماء هلالا يعانق نوره “نوار الملح”.
النسيم البارد يتسرب إلى الخلايا وتسري في الجسد قشعريرة لا تلبث أن تتحول إلى دفء تبثه طيبة سكان مدينة الكاف المرتسمة في ابتساماتهم ونظراتهم المحملة بالحكايات فيما باحت السهرة الثانية ضمن مهرجان نوار الملح بتفاصيلها بعرض للجمعية التونسية لمساعدة الصم بتاجروين.
منظورو الجمعيات الراعية لذوي الإعاقة بالكاف وعدد من العائلات المسجلة ببرنامج “الأمان الاجتماعي” كانوا نجوما أشعت في ثنايا القصبة في سهرة عنوانها العرفان والاعتراف بفنانين خلّدوا أسماءهم في الذاكرة الفنية، سهرة تردد فيها النشيد الوطني صوتا وبلغة الإشارة.
في الكاف تمتد جذورهم، وللكاف بذلوا الكثير من أرواحهم وفيها نالوا تكريما، الممثلة ناجية الورغي والممثّل نور الدين الورغي والممثّل المنجي الورفلي الذين لم يخفوا سعادتهم لرمزية هذا التكريم في الكاف العالي وسط أهلهم.
ناجية الورغي ومنجي الورغي ومنجي الورفلي فنانون رسموا لأنفسهم نهجا يشبه شغفهم بالفن والتحامهم بالطبقات المنسية والمهمشة فحظوا بتكريم مستحق في مهرجان يحاول أن يرسم سبلا تكسر الحواجز الممتدة أمام بعض التونسيين تحول دونهم ودون حقهم في الثقافة والفنون.
وعلى نسق الحفر عميقا في تاريخ “المنسيات” قدم الفنان البحري الرحالي مسامرة استحضر فيها الفنان الهادي بن صالح المقري روح “عرض المنسيات” عاشق الايقاعات الذي يحمل صوت تونس العميقة في تفاصيله وتحمله في تاريخها الحقيقي.
وبعد فيديو يوثق لمسيرة القلب النابض بموروث الكاف، كان جمهور مهرجان نوار “الملح” على موعد مع عرض للفنان ياسر جرادي الذي رافقه على الركح الموسيقيون هادي فاهم على الغيتار وسيف الدين هلال على الإيقاعات وأمين الهداوي على الباص.
“نسمع فيه يغني” صدح صوت ياسر جرادي في أرجاء القصبة مستحضرا الشهيد شكري بلعيد الذي كان حاضرا أيضا في مسرح “خيال الظل” من إنتاج فضاء مسار في عمل فني مختلف عرج على مراحل مفصلية في تاريخ تونس ما قبل الثورة وما بعدها.
“شبيكي نسيتيني” و”نرجعلك ديما”،و”خلصني” غنى جرادي لتونس، للحالمين والمتعبين، وللمهمشين وللمضطهدين، لكل من تشبثوا بالأمل وظلوا يقاومون رغم سوداوية الواقع وقساوته.
وأما الفنانة لينا بن علي فاقترحت على جمهور مهرجان نوار الملح عرضا غنت فيه أغاني تعالت فيها نغمات البلوز وراوحت فيها بين العربية في لهجات مختلفة منها التونسية والجزائرية، والانجليزية والإسبانية،
بخامة صوتية مميزة وصوت ممتد غنت للحرية “تشي غيفارا” و”وهران” و”مالي ومالهم” وسط تفاعل من الجمهور الذي ظل محافظا على حماسته من فاتحة السهرة إلى خاتمتها.