على خطى الموت يمضي فيلم “نوار عشية” للمخرجة التونسية خديجة لمكشر ويلقي بالمتفرج في دوامة من الأسئلة الموجودين عن الحياة والموت وما بينهما من أحلام وهواجس.
الفيلم عرض ضمن المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والأربعين ويخوض في الموت بأبعاده المادية والمعنوية ويوغل في القتامة واليأس.
على امتداد 103 دقائق تحملنا كاميرا خديجة المكشر في ثنايا تيمة الموت الذي يتخذ تمظهرات كثيرة في “حي هلال” الذي يرزح تحت عبء الفقر والتهميش وآفة المخدرات.
حيث يعشش الموت تينع زهرة وسط الخراب الذي يطب من شقوق المنازل التي تبوح بالخصاصة، تماما كما يزهر “نوار عشية” (زهرة شب الليل) وسط المزابل، هذه الزهرة هي “يحيى”.
“يحيى” شاب أدارت له الحياة وجهها مرات كثيرة وأوجعته الحقيقة وانتصر له الخيال حينما أهداه رفيقة أمسكت يده في كل حالات الموت وكانت له سندا حينما لم يسعفه الحلم الذي اقتفى أثره على قارب الموت.
عبر حكاية “يحي” يبسط الفيلم مشاكل فئة واسعة من الشباب الذين يحلمون خارج الصندوق، شباب صاروا يبحثون عن وجه آخر للحياة في الضفة الأخرى التي صارت هوسا للكثيرين.
على أعتاب “نوار عشية” وجد “يحي” سبيلا لتحقيق حلمه في الهجرة حينما حقق حلم “يوسف” (دجو) الذي ضمه إلى قاعة الملاكمة التي صقل فيها مهاراته اللافتة وسلك فيها طريق البطولة.
البطولات التي تمثل أحلاما للكثيرين لم تغو “يحي” الذي حمل حلمه في قلبه الذي استوى فيه الربح والخسارة على وقع الرغبة في التعليق بعيدا عن محيط يستأثر فيه القبح بالجماليات.
موضوعات كثيرة تتناثر على أعتاب الحلم الذي ضاع في غياهب الواقع، العلاقات العائلية المتوترة، الإدمان، البطالة، الهجرة غير النظامية، ومنها تتفرع الأحداث لتفضي في كل الحالات إلى الموت.
نزعة سوداوية تطرز الفيلم في كل ثناياه وتصنع شاعرية من تدفق الوجع الذي يتعاظم مع النهاية وكأن المخرجة تخبرنا أنه لا تبديل ولا تغيير في الواقع وأنه لا خلاص .. إنه الموت ولا شيء غيره.
هالة الموت تخيم على كل تفاصيل الفيلم حد السوريالية التي ركنت إليها المخرجة في بعض المشاهد الموشحة بالعجائبية لتزيد يقيننا بأن ما نعيشه أحيانا يتخطى الخيال.
ومن تيمة الموت تتفتح آفاق أخرى في الفيلم ترسو عند البحر الأبيض المتوسط حيث صارت الأمواج سكنا لأحلام المهاجرين غير النظاميين ومقابر لأجسادهم المثقلة بالهموم والشواغل.
الفيلم مفعم بالعاطفية وفيه مسحة من الذاتية اختارتها المخرجة خديجة لمكشر التي اكتوت عائلتها الموسعة بحرقة الموت في عرض البحر فما عادت ترى في البحر جمالية وشاعرية وإنما مقبرة.
“نوار عشية” بما يحمله من حقيقة ووجع وتتاقضات يصور الواقع كما هو دون تزييف من خلال حكايات شخصيات تروي ملامحها بعضا من مآسيه، شخصيات تقمصها ممثلون أضفوا من أرواحهم عليها.
هذا العمل السينمائي مليء بالمراوغات التي يبرق معها بصيص الأمل ثم يتلاشى ليحاكي رؤية المخرجة التي أصرت على إقحام المتفرج في بوتقة من اليأس الذي يثقل روحها بعد أن صار البحر رمزا للموت.
الفيلم لا يخلو من بعض التمطيط في مشاهد أرادتها المخرجة لتفسر أكثر وجهة نظرها المنغمسة في السوداوية والنص يبدو أحيانا خاويا ولكن الكاستينغ وأداء الممثلين والموسيقى نقاط قوية في العمل وعناصر خدمت القصة.
بحري الرحالي، ويونس مكري، وإلياس القادري، وأمير التليلي، ومعز التومي، وفاطمة بن سعيدان، ممثلون تقمصوا شخصياتهم بسلاسة وبساطة وأجادوا الأداء الصامت في المواقف التي لا تجدي فيها الكلمات نفعا.