الصراع الجاري في السودان اليوم، دماء السودانيين، الشتات الذي رافق الأحداث الأخيرة، سيل العنصرية الذي لا ينضب، آهات المهاجرين من بيوتهم، خيوط الدماء، صور تتواتر مع تفاصيل فيلم “وداعا جوليا” للمخرج السوداني محمد كردفاني.
ليس السياق نفسه ولا الأحداث عينها ولا أطراف النزاع ذاتها ولكن التوتر والاضطراب راسخ في كل الزوايا والأركان فملامح قصة كردفاني تتشكل مع مصرع مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق وحالة الشغب التي شهدتها الخرطوم سنة خمسة وألفين.
ست سنوات قبل انفصال الشمال عن جنوبه يبوح الفيلم بتفاصيله في مدينة الخرطوم التي صارت بمثابة فضاء رمزي يروي آلام الانقسام والشتات والعنصرية والانفصال وأزماته ذاته الوجوه الكثيرة.
في الواقع لا يمكن تصنيف نوع الفيلم من الوهلة الأولى إلا أنه يشبه السودان في كل ما مر عليها من أحداث ويحكي ملاحم السودانيين على اختلافاتها، فيلم موغل في الإنسانية يخاطب العقل والعاطفة على حد سواء ويدغدغ الفكر.
من زاوية مجتمعية وازى المخرج محمد كردفاني بين الانفصال وتبعاته ومصير أسرتين جنوبية وشمالية حيث تكون “منى” (إيمان يوسف) المرأة الشمالية التي تعيش مع زوجها “أكرم” (نزار جمعة) سببا في مقتل رجل جنوبي ثم استقدام زوجته “جوليا”(سيران رياك) للعمل في منزلهما.
وعلى أثر السعي إلى التطهر من الذنب العالق على عاتق “منى” يتشارك المجتمعي والسياسي والإنساني والهووي والعقائدي وتتبدى كل فسيفساء السودان في بضعة أفراد أفلح المخرج في اختيار ملامحهم وهيئاتهم ليعبر صمتهم بعمق عن علل المجتمع السوداني.
الفيلم لا يحبس شخصياته في حيز زماني ومكاني محددين ولا مكان فيه للمثالية المطلقة أو الطوباوية بل يبدو بملامح كونية يعزف على أوتار المفاهيم ويحاول أن يبلغ رسالة مفادها أن الثورات ليست تغييرا للأنظمة فحسب وإنما للمفاهيم البالية .
وحينما ينساب السرد في الفيلم تتوضح وجهة نظر المخرج الذي يتخذ من السينما مساحة للتخلص من إرث مجتمعي مريض هو العنصرية ومحقها وقيام المصالحة محلها في محاولة لبناء مجتمع يتلاحم فيه الشماليون والجنوبيون وتتجلى فيه السودان القوية بهويتها وتاريخها وقيمها.
التاريخ السوداني بما يحويه من توتر وعنصرية اختزله كردفاني في ركن المجتمعي وحشر معه المشاهد في علاقة بين امرأتين شمالية وجنوبية يخوض معهما جولة في السودان بشقيه من خلال يوميات “جوليا” و”منى” اللتين جمعتهما كذبة.
الكذبة تجسدت حينما اقترفت الشمالية جريمة وصدمت طفلا صغيرا بسيارتها فما كان من والده الا أن طاردها ليلبي نداء الأبوة داخله لكنها طمست كل الحقيقة وادعت أن جنوبيا يطاردها فنال منه زوجها وأرداه قتيلا في ذروة الصراع الشمالي الجنوبي.
في ذروة تقسيم الدولة التقت “منى” و”جوليا” عند مفترق الصراع وتقاسمتا ظروفا تركت أثرها على كلتيهما في مسارين متوافقين ومتدانيين يتمطط تجاه المصالحة ومن ثم يتقلصان.
من المجتمع السوداني يستلهم الفيلم تفاصيله لكنه لا يعطي دروسا ولا أحكاما بقدر ما ينغمس في إنسانية الإنسان، كذبه، إحساسه بالذنب، سعيه إلى التطهر ، ويشرّح العلاقة المعقّدة بين الشماليين والجنوبيين ويرسم الهوة بين التقدم والحداثة.
ومنزل “منى” يبدو مثالا مصغرا للصراع فهي تحب الغناء وزوجها “أكرم” متشدد ومتعصب ومن هنا يعشس الكذب في كل التفاصيل ويبقى صوت منى وهي تغني حجابا يطمس صوت الرصاص.
ثنائيات ومتضادات كثيرة تتجلى في الفيلم القائم على سيناريو بسيط ومحبوك وجذّاب والسائر على إيقاع غير خطي تتماهى فيه الجريمة والأغاني والمواضيع الشائكة والمعقدة بطريقة سلسلة تشد إليها المشاهد شدا.
والفيلم نسوي بطريقة لافتة فمعاناة البطلتين لم تمح صلابتهما وقدرتهما على مجابهة الأحداث ولم تؤثر في ملامحهما الأخاذة والهادئة في تحد صارخ لما يخرج خارج المنزل الذي يجمع جوليا بقتلة زوجها حينما تحاول “منى” أن تهرب إلى إنسانيتها وحينما توفر لها عملا في منزلها وتؤويها وابنها.
لغة الفيلم السينمائية بسيطة لا تتعالى على المشاهد والإحالات الحسية فيها تدعو إلى التأويل والتفكر وتصب في خانة صناعة سينما هادفة تكون فضاء لوضع الإصبع على الداء دون أعادة إنتاجها والبحث عن محاولات للتغيير.
البناء السيكولوجي للشخصيات والسيرورة الدرامية وإدارة الممثلين والحوار المنسوج بإتقان، تفاصيل تغرز في روحك سهم الانقسام وتراود دمعك لما يرافقه من أوجاع ومعاناة ولكنه أيضا يرسم هالة من الشاعرية حول الانشطار إلى جزأين.
الانشطار إلى جزأين داخل الجسد الواحد وداخل البيت الواحد وداخل المجتمع الواحد وداخل البلد الواحد، رغم ما يسيله من دم وما يرسمه من تمدهرات للموت إلا أنه يبدو شاعريا على إيقاع رفض العنصرية والحرب والعنف ويجعل من قضية محلية قضية كونية عنوانها الانفتاح والمصالحة.
تبدو الأحداث في الفيلم متداخلة ومتشابكة وكأنها خيوط شريط تحاول يد بريئة ترتيب فوضاه دون تمزيقه على إيقاع مراوغات بين “منى” التي تعشق الموسيقى وتهرب إليها وبين زوجها “أكرم ” المتشدد و”جوليا” التي تبحث عن الأمان حيث سأل دم زوجها.
وعلى نسق المصالحة بين “جوليا” وابنها “دانيال” الذي حمل البندقية ليقتص وكأن عقارب الساعة محبوسة في دائرة الصراع ولكن أصابع تحاول تحريريها وسط صمت غزا بعض المشاهد ليخبرنا ألا معنى للحوار إن لم يكن فتيلا للتغيير.