عمل صحفي: أمل الصامت ومليكة الماجري
في مجتمع لا يزال يتعامل مع التربية الجنسية كأحد المحظورات الثقافية والدينية، يصبح الحديث عن وسائل منع الحمل بين الشباب واليافعين تحدّيا مضاعفا. وفي تونس، ورغم ما يبدو من انفتاح تشريعي ومبادرات جمعياتية، فإن الواقع يُظهر فجوات واضحة سواء على مستوى الوعي، أو على مستوى النفاذ إلى المعلومات والخدمات الجنسية والانجابية.
آية، تلميذة في السادسة عشرة من عمرها، تبدو للوهلة الأولى واثقة من معارفها. تقول إنها تنشط مع جمعيات تهتم بالتثقيف الجنسي وتدعم حقوق اليافعين.ات في الوصول إلى وسائل الوقاية والوعي الجنسي، وتعتبر أنها على دراية بمختلف أنواع وسائل منع الحمل، وبأماكن توفرها، سواء في المراكز الصحية العمومية أو من خلال الفضاءات الشبابية. غير أن هذه الثقة سرعان ما تتبدد عندما يُطلب منها التوضيح أو الدخول في التفاصيل. فهي تتحدث إلينا وكأنها في اختبار شفاهي لدرس تم تلقينه إياها.
تعترف آية، دون حرج، أنها تردّد معلومات عامة سمعتها في ورشات أو حملات، لكنها لا تملك تكوينا علميا دقيقا، ولا قدرة فعلية على اتخاذ قرار واع في حال وجدت نفسها في وضعية تستدعي استخدام وسيلة وقائية.
أما ياسر، وهو شاب في بداية العشرينيات من العمر، يؤكد بدوره أنه يعرف أنواعا من وسائل منع الحمل، مثل الواقي الذكري والحبوب واللولب، بل ويضيف أنه على علم بأن أغلبها متاح مجانا في مراكز التنظيم العائلي التابعة للديوان الوطني للأسرة والعمران البشري، أو يُباع بأسعار رمزية في الصيدليات.
يعتبر ياسر أن الحصول على هذه الوسائل قد يكون أسهل عن طريق الجمعيات، حيث يجد الشاب أو الفتاة خصوصية أكثر وأمانا نفسيا أكبر. لكنه يُشير في المقابل إلى أن هذه الخدمات لا تغطي كل الجهات بنفس الكثافة، وأن أغلب الجمعيات والفضاءات المتخصصة تتركز في العاصمة والمدن الكبرى، ما يجعل النفاذ إليها محدودا في المناطق الداخلية والأحياء الشعبية. وقد خاض ياسر تجربة مباشرة في أحد الفضاءات التابعة للديوان الوطني للأسرة والعمران البشري المخصصة للشباب، حيث تلقى توجيها ونصائح وصفها بالإيجابية، مؤكدا أن ما لقيه من احترام ووضوح شجّعه على تجاوز التردد الذي كان يشعر به قبل الزيارة.
رغم هذه التجارب الجزئية، تبقى الأسئلة الكبرى مطروحة: ما الذي يتيحه القانون فعلًا؟ وهل يُطبّق بنفس الروح التي كُتب بها؟ وما مدى جاهزية المجتمع ومؤسساته لمرافقة اليافعين واليافعات في فهم وامتلاك أجسادهم واختياراتهم؟
فجوة بين النص والواقع…
تشير المعطيات الرسمية إلى أن تونس كانت من الدول الرائدة عربيًا في مجال تنظيم الأسرة. فقد وفّرت منذ ستينات القرن الماضي خدمات طبية مجانية أو شبه مجانية، وأتاحت استعمال وسائل منع الحمل دون تمييز بين الفئات. وتُعدّ من أوائل الدول التي سمحت باستخدام حبوب منع الحمل الطارئة دون وصفة طبية، وهو ما تم فعليًا منذ سنة 2005.
وتضم مراكز الصحة الأساسية في تونس مكاتب لتنظيم الأسرة تقدم خدمات متنوعة، كما أن هناك فضاءات شبابية متخصصة تابعة للديوان الوطني للأسرة، تقدم توعية ومرافقة صحية لفائدة الشباب، بغض النظر عن حالتهم الزوجية أو الاجتماعية.
غير أن هذه البنية التشريعية، التي تبدو على الورق متقدمة، تصطدم في الواقع بجملة من العوائق. من بينها مركزية الخدمات، إذ تتركز أغلب الفضاءات والجمعيات المختصة في مناطق محدودة جغرافيا، ما يجعل النفاذ إليها أمرا ليس بالهين بالنسبة إلى الشباب في عدد من المناطق الداخلية. كما لا يزال هناك نوع من التمييز غير المعلن داخل بعض المراكز الصحية أو الصيدليات، حيث تُرفض أحيانا مطالب الشباب غير المتزوجين، خاصة الإناث، للحصول على وسائل منع الحمل، رغم أن القانون لا يشترط السن أو الزواج. ويضاف إلى ذلك ضعف التكوين العلمي لدى مقدّمي الخدمات، ما يجعل بعضهم يخلط بين دوره المهني وقناعاته الشخصية أو الدينية، فيتعامل مع طلبات الشباب من موقع أخلاقي لا من موقع طبي.
أما على مستوى التربية، فإن إدماج التثقيف الجنسي في المدارس ما يزال “خجولًا”، رغم اعتماد الدولة لاستراتيجية وطنية للصحة الجنسية والإنجابية للفترة 2021–2030، تنصّ صراحة على ضرورة تكوين الأطفال واليافعين.ات منذ سن مبكرة على مفاهيم الوقاية والاحترام المتبادل. فغالبا ما تبقى هذه المبادرات رهينة شراكات ظرفية مع منظمات المجتمع المدني، ولا تشمل كل المدارس أو كل الفئات، ما يكرّس عدم المساواة في النفاذ إلى المعلومة.
معطيات ميدانية…
تحت عنوان “وسائل منع الحمل ومعرفتها في تونس” قدمت شابة ناشطة بجمعية “ADO+” التي تعنى باليافعين واليافعات، معطيات ميدانية تم جمعها من خلال استبيان أجرته مع مجموعة من الشابات في العاصمة، وذلك خلال يوم تشاركي بين الصحفيين والشباب.ات الناشط بالمجتمع المدني نظمته منظمة صحفيون من أجل حقوق الانسان.
وأظهرت النتائج التي توصل إليها الاستبيان الذي شمل حوالي 100 شابة، أن “الفتيات، حتى المتعلمات والواعيات منهن، يشعرن بحرج شديد عند الحديث عن وسائل منع الحمل، أو محاولة طلبها من الصيدليات أو المراكز الصحية”. ولعل الخوف من نظرة المجتمع، ومن الأحكام الأخلاقية المسبقة، يدفع الكثيرات إلى الصمت أو إلى الاعتماد على معلومات مشتتة وغير دقيقة.
وكشفت شهادات فتيات شابات أن حبوب منع الحمل هي الوسيلة الأكثر شهرة، لكن الفهم العميق لبقية الوسائل مثل اللولب أو الحقن أو الواقي الذكري يكاد يكون منعدما. كما بينت ذات الشهادات أن المعلومة تصل غالبا من الإنترنت أو من خلال استشارة عابرة مع طبيب، دون إطار منهجي أو تثقيف متدرج.
وفي سؤال بسيط ومباشر عن سلامة وسائل منع الحمل، أجابت نسبة كبيرة من الفتيات، وفق ذات الاستبيان بـ”لا أعلم”. ما يدلّ على غياب الثقة في هذه الوسائل، وانتشار تصورات خاطئة، من قبيل أن الحبوب تسبب العقم، أو أن اللولب مؤلم وخطير. وفي بعض الحالات، يكون القرار النهائي باستعمال الوسيلة من نصيب الزوج أو الطبيب، دون اعتبار لرغبة المرأة أو ملاءمة الوسيلة لجسدها، وفق معطيات ذات الاستبيان المشار إليه.
من هذا الواقع، برزت اقتراحات عملية من الفتيات أنفسهن، أبرزها ضرورة الحديث عن الموضوع في المدارس بلغة مبسطة، وإنتاج محتوى بصري رقمي بلغات شبابية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب توفير الوسائل بطرق تحفظ كرامة الفتيات وتكسر الحرج المرتبط بها. ومن هنا نتبين ربما أن المشكلة ليست في الوسائل بحد ذاتها، بل في مناخ الصمت، وضعف التوعية، والخرافات التي تحكم السلوك وتقيّد الاختيار.
في هذا السياق، تؤكد المديرة التنفيذية لجمعية “+ADO” ضحى الجورشي، أن الحديث مع اليافعين واليافعات حول أجسادهم، بما في ذلك وسائل منع الحمل، ليس ترفا تربويا ولا أمرا محرجا، بل هو حق أصيل من حقوقهم. وتشدد على أن التثقيف الجنسي الشامل، متى ما تم تقديمه بطريقة علمية وسليمة، يُمكّن اليافعين واليافعات من امتلاك قراراتهم.هن، وحماية أنفسهم.هن من المخاطر الصحية والنفسية، دون الحاجة إلى الولوج في دوائر الصمت أو الشعور بالذنب.
وتضيف الجورشي لرياليتي أون لاين بالعربية، أن الحديث عن هذه المواضيع داخل الأسرة، وفي المدرسة، وفي الفضاءات المفتوحة، يجب ألاّ يُقابل بالوصم أو الرفض، بل بالإصغاء، والمرافقة، والتوجيه. ووجّهت في هذا الإطار رسالة واضحة إلى الأولياء، دعتهم فيها إلى الإحاطة بأبنائهم وبناتهم، ومرافقتهم في رحلتهم نحو الفهم الذاتي والنضج العاطفي والجسدي، بدل تركهم تحت رحمة مصادر مشوشة أو منابر غير موثوقة.
وتختم الجورشي بالقول: “التربية الجنسية لا تعني التحريض، بل تعني التمكين. والتمكين يبدأ من المعرفة، والمعرفة تبدأ من حوار شجاع وآمن.”
عندما لا تكفي الوسيلة.. ويغيب التثقيف؟!
يرى مختصون في الصحة الجنسية والإنجابية أن مسألة وسائل منع الحمل لا تتعلّق فقط بتوفير المنتج الطبي، بل ببناء منظومة متكاملة من المعرفة والوعي والثقة. فحسب المبادئ العلمية الأساسية المعتمدة من منظمة الصحة العالمية، تُعدّ وسائل منع الحمل الحديثة من أكثر الأدوات فاعلية في الوقاية من الحمل غير المرغوب فيه، كما تسهم بشكل مباشر في تقليص نسب الإجهاض العشوائي والمخاطر الصحية المرتبطة به.
ويشير الأطباء المختصون إلى أن نسبة الأمان تختلف من وسيلة إلى أخرى، لكن الفاعلية ترتبط أساسا بحسن الاستخدام، وهو ما يتطلب بالضرورة توفير المعلومة الدقيقة للمستخدم أو المستخدمة. فمثلا، حبوب منع الحمل الهرمونية تصل فعاليتها إلى أكثر من 99٪ عند استخدامها بشكل صحيح، لكنها تنخفض إلى ما دون 90٪ في حال الاستخدام المتقطع أو الخاطئ. أما الواقي الذكري، فهو بالإضافة إلى دوره في منع الحمل، يُعدّ الوسيلة الوحيدة التي توفّر حماية مزدوجة ضد الأمراض المنقولة جنسيا، ما يجعله أداة مركزية في التوعية الجنسية لدى اليافعين.ات والشباب.ات.
ورغم أن تونس توفّر هذه الوسائل بصفة مجانية أو شبه مجانية، تشير المستشارة في التربية الجنسية الشاملة والصحة الجنسية والإنجابية لدى صندوق الأمم المتحدة للسكان الطبيبة رحاب بليدي إلى أن النفاذ الفعلي يظل مرتهنا إلى ثلاثة عناصر: أوّلها التثقيف العلمي الشامل داخل المؤسسات التربوية، وثانيها ضمان الخصوصية داخل مراكز الخدمات الصحية، وثالثها تفكيك الخطاب المجتمعي الذي يربط هذه الوسائل إما بالخجل أو التردي الأخلاقي. وتشدد بليدي أيضا على ضرورة أن يكون الحديث عن وسائل منع الحمل موجها إلى الجنسين على حدّ سواء، إذ ما زال يُنظر إلى هذه المسؤولية وكأنها شأن نسائي بحت، في حين أن الوقاية الجنسية مسؤولية مشتركة، ومبدأ من مبادئ الصحة العامة.
وتؤكد محدثة رياليتي أون لاين بالعربية، أن فشل استخدام وسائل منع الحمل في بعض الحالات لا يعود إلى خلل طبي في الوسيلة نفسها، بل إلى غياب التأطير والتكوين، أو إلى سيطرة الخرافات والمعلومات المغلوطة، وهو ما يستدعي تدخلا وطنيا متعدد القطاعات، يشمل الصحة، والتعليم، والإعلام، والمجتمع المدني، لإرساء ثقافة جنسية صحية تحترم الجسد، وتبني علاقة متوازنة بين الوقاية والاختيار الواعي.
وهكذا، كما في حالتي آية وياسر، يصبح الشعور بالمعرفة في كثير من الأحيان مجرد وهم تغذّيه المشاركة السطحية أو الاكتشاف الجزئي، دون أن يترجم إلى قدرة فعلية على اتخاذ قرار صحي، أو حماية الذات في لحظة حرجة. هذه الفجوة بين القانون والتطبيق، بين المعلومة والخدمة، بين الرغبة في الوعي وواقع الصمت المجتمعي، هي ما يجعل موضوع وسائل منع الحمل في تونس، رغم تاريخه العريق، مسألة لا تزال مطروحة بإلحاح، خصوصًا في صفوف الشباب.ات واليافعين.ات الذين يحتاجون.ن، أكثر من أي وقت مضى، إلى خطاب صريح، وخدمة عادلة، وبلد يحترم حقهم.هن في المعرفة، دون خوف أو وصم.