“وين صرنا؟” (أين صرنا؟) سؤال اختارت درة زروق أن تعنون به فيلمها التسجيلي في أول تجربة إخراجية وإنتاجية وتقذفنا في متاهة من الأجوبة المحتملة التي تستوعب المكان والحالات والوضعيات.
ولكن أي من هذه الأجوبة يمكن أن تفسر مآلات التهجير والتغريب في رحلة البحث عن الأمان خارج وطن امتدت فيه جذور غير قابلة للاجتثاث، جذور تترسخ بفعل البعد القسري وتؤسس للعودة يوما ما.
وليس من رأى مشاهد وصور رحيل أهل غزة من أراضيهم وما تحمله من تمظهرات القعر والوجع كمن عاشها وامتص كل السخط والحنق، وليس أقدر ممن نزحوا لمرات ومرات على الحديث عن هذه المسارات المعمدة بالتراجيديا.
وفي فيلم “وين صرنا؟” تقحمك الحكاية في تفاصيل معاناة عائلة فلسطينية من غزة وصولا إلى القاهرة وتفتح في مخيلتك مسارب للتفكر في مصائر النازحين والمهاجرين بحثا عن ملاذ وفي ما كانوا عليه قبل الحرب المستمرة على قطاع غزة.
الحكاية راهنة ومستجدة في زمنها وهو ما يجعلم متعطشا لسماعها من أصحابها دون وسيط في محاولة لاستيعاب حالاتهم الذهنية والعاطفية على وقع قرار بالرحيل لم يحظ بفرصة للتفكير فيه بعقلانية.
هي إكراهات الاحتلال والحرب تدفع الفلسطينيين إلى البحث عن سبل أخرى خارج وطنهم لعلهم يستكملون أحلامهم التي أربكها القصف الهمجي ويأمنون أنفسهم من الجوع والخوف تماما كما فعلت “نادين وعائلتها”.
“نادين” وعائلتها تجرعوا مرارة الحرب على دفعات داخل منزلهم وفي مخيمات النازحين وانحسر تفكيرهم في الموت وصاروا يبحثون عن طريقة مثلى يتمكن بها جيرانهم من الوصول إلى جثثهم قبل أن تتحلل …
وبعد أن كان الطابق السفلي أكثر أمانا خلفه الطابق العلوي قبل أن يصبح البيت كله غير آمن مع اقتراب القصف ومع وقت المغادرة تسربت مشاعر الوجع ووثقتها فيديوهات على الهاتف.
عند الرحيل صارت لكل الأشياء أرواح ولم يكن وداع البيت وتفاصيله هينا ولكن لا بد من البحث عن ميناء سلام لا تقصف فيه الأحلام والآمال، هذا ما تستشفه من حديث “نادين” وأمها وشقيقاتها وشقيقها.
ليست كل المشاهد موثقة في الفيلم ولكن الدموع العالقة في نبرات أصوات أفراد العائلة وهم يتحدثون عن هواياتهم التي تاهت وسط الركام وعن مدارسهم التي آلت حطاما وعن مستقبلهم الذي يتطلعون إليه من بعيد وهم لم يتخطوا بعد ماضيهم في غزة.
ولعل درة زروق محظوظة في تجربتها الاخراجية والانتاجية الأولى حيث صادفت هذه العائلة التي تزخر حكايتها بحيثيات يمكن أن تنسحب على عائلات أخرى من ذلك مشاكل استكمال الدراسة الجامعية وحتى الثانوية.
فالفيلم مساحة لسماع صوت اللاجئين الفلسطينيين من خلال تتبّع مسار الللاجئين من غزة إلى مصر على امتداد 79 دقيقة روت فيها
“نادين” الفلسطينية الشابة قصة وصولها إلى مصر بعد ثلاثة أشهر من الحرب في غزة برفقة ابنتيها الرضيعتين وأفراد عائلتها.
“وين صرنا” ينغمس في قلب وجع أم أنجبت قبل الحرب ببضعة أشهر بعد معاناة خمس سنوات، وزوجة تنتظر زوجها الذي لم يتمكن من الانضمام إليها إلا بعد شهرين.
هذا الفيلم الذي يروي قصة يتشاركها العديد والعديد من الفلسطينيين الذين ذاقوا ويلات النزوح والشتات والتهجير يقحمك في حكايات العائلة التي تتأرجح بين الإحساس بالأمان والبعد عن الوطن.
نظرات المتحدثين سكن للوجع والأمل، الضحكات خجولة مرشحة بمسحة من الحزن، قائمة الأحلام تقلصت ولكن الجميع مازال يحلم متخطين كل الهواجس ومتجاوزين فكرة الرحيل عن بيتهم وطنهم بشكل يجعلك مضطربا أمام وقوفهم في منزلة بين المنزلتين.
بين مشاهد تم تصويرها في القاهرة وأخرى تم تصويرها في غزة تلاحق الكلمات وتنغمس أكثر فأكثر في دواخل الشخصيات حتى أنك تتغاضى عن بعض الجوانب الفنية والتقنية وأنت تحاول معرفة المزيد عن هذه الشخصيات.
هذه الشخصيات نموذج لكثير من الفلسطيين الذين يحملون فلسطين في قلوبهم حيث ما ولوا وجوهم ولا يقيمون أي حسابات أو مخططات بمعزل عنها ويعيشون على أمل أن يعودوا إليها وإلى حياتهم السابقة بكل تفاصيلها.
وما يشدك في حكايات أفراد العائلة اهتمامهم بأحوال من ظلوا في أتون الحرب من أصدقاء وأقارب ليظلوا دائما قابضين على الجمر متربصين بأية معلومة عن أشخاص تقسمها معهم الوجع والخوف والجوع وأشياء كثيرة.
هذه الحكايات المتناثرة من أفواه أجيال مختلفة جعلت الفيلم مشحونا بالعواطف مضرجا بالأمل الذي اختارت مخرجة الفيلم أن يكون آخر ما تنهي به التصوير في مشهد يعانق فيه البحر السماء في تجل للحرية.
ولأن شخصيات الفيلم تحمل في قلوبها ومنها وهويتها فإنها زينت ركح عرض الفيلم الذب/يشارك في آفاق سينما عربية ضمت مهرجان القاهرة الدولي بالأثواب الفلسطينية والكوفية وبكثير من المشاعر المتداخلة.
هي تجربة إخراجية أولى لدرة زروق خدمتها القصة المؤثرة في سياق راهن يتسرب منه الوجع في ظل صمت مدقع عن المجازر والإبادة كانت فيه قصة العائلة كفيلة بأن تروي نفسها بنفسها.