لم أدر أعن حسن نية أم عن خبث ودهاء فعل وزير التربية هذا… لقد قدم للصحفيين رقما مفزعا لمن سماهم (المنقطعين عن التعليم).. هذه العبارة التي تستدعي إلى الذهن صورا شتى مرتبطة بمغادرة المدارس في سن مبكرة. كانسداد الآفاق، والهجرة السرية، والانحراف، والمخدرات، والجريمة الخ.. وبعد أن أطلق الوزير كلمته تلك مثل السهم واصل (وكأنه يتحدث عن موضوع آخر) قائلا إن سبعين في المائة من هؤلاء المنقطعين يواصلون تعليمهم في القطاع الخاص…
سيدي الوزير..
هذا لا يسمى (انقطاعا عن التعليم) فهذا الرقم المفزع الذي قدمته هو عدد الذين اختاروا بمحض إرادتهم الانتقال من التعليم العمومي إلى الخاص. وهو نوع جديد من التعليم لم يعد كما كان من قبل ملجأ الفاشلين والمطرودين وذوي الأخلاق المنحطة من أبنائنا الأعزاء بل صارت عينه على المتفوقين والميسورين والأذكياء ويفعل ما بوسعه لاستدراجهم، يفعل ذلك ليوفر لهم فرصة الفرار بجلودهم من مدارس كلنا يعرف (مع الأسف) أنها في عصر الذكاء الاصطناعي ما تزال تبحث عن حلول لمراحيضها وشبابيكها المكسورة. ومن بعد ستين عاما من الاستقلال لم نخجل من الذهاب إلى اليونيسيف لصيانة مؤسساتنا التربوية.
صحيح أن هؤلاء (منقطعون عن التعليم) لكن في دفاتر الوزارة فقط… الوزارة التي من الواضح أنها تمارس سياسة الإنكار أمام واقع جديد فرض نفسه أصبح فيه التعليم الخاص يقدم خدمات تربوية لا تستطيع الدولة توفيرها. قلت (خدمات تربوية) وأعني ما أقول ففي التعليم العمومي ما يزال ثمة مربون أفاضل برتبة مناضلين ومقاتلين وقناصة. هؤلاء يمارسون المهنة كما لو كانوا في ساحة حرب لأن البيئة التي يعملون بها فقيرة جدا ومتخلفة جدا وتعاني من حرمان شديد بل وفي غالب الأحيان تقيم خارج العصر..ولذلك فإن كل قصص النجاح التي نصفق لها نهاية العام هي بطولات حقيقية لأبطال حقيقيين…
هذا الواقع الجديد سيدي الوزير ليس عنوانه (الانقطاع عن التعليم) كما أوهمك ربما بعض حملة المباخر من مستشاريك بل موضوعه الأهم اختلال قاعدة تكافؤ الفرص وتعمق الشرخ الاجتماعي والتفاوت الطبقي ونهاية أسطورة ديمقراطية التعليم التي صنعها بورقيبة ومؤسسو دولة الاستقلال.
(ملاحظة: هذا الرأي لعامر بوعزة نشره اليوم 1" سبتمبر بصفحته الخاصة على الفايسبوك)