ليس أشد وجعا من أن يتهاوى كل شيء من حول طفل صغير لم يحلم بغير الحياة، وليس أشد وجعا من أن تتلاشى الصورة الجميلة التي رسمتها في مخيلتك لأقرب الأشخاص إلى روحك.
وليس أشد قسوة من أن ينالك الجزع في أكثر الاحضان أمانا وليس أشد قسوة من أن ينتزعوا بعضها منك دون إيذان لتعيش في ثنايا كذبة مزلزلة تكتشفها ذات صدفة تعري أكثر من هوة.
ذلك الإحساس بالخيانة والغدر وذلك الشعور بالغبن والسخط على واقع يتيح لمن ابتسمت لهم الحياة وأكرمتهم بالمركز أن يستغل من عبست لهم فآوتهم الهامش، ذلك الصراع الأزلي بين الطبقات وكل تلك المشاكل الجاثمة على قلب المجتمع تجلت في فيلم "ڨدحة.. حياة ثانية" للمخرج أنيس الأسود.
على امتداد ردهات الفيلم تختلط مشاعرك وأنت تتأرجح بين الاحداث التي يرويها الفيلم، بين الإحالات التي تشكلها وتتيح تفاصيلها من اليومي المشحون بالتمييز وغياب العدالة والفقر والتهميش واليأس وسط لامبالاة من الدولة.
بعيون الأطفال يروي الفيلم حكاية من وحي الخيال لكن تفاصيلها متجذرة في الواقع وتحاكيه في أبعاد كثيرة، حكاية تقحمك في مسار الأحداث دون أن تسقط عليك أحكامها ودون أن تحدد لك خلفيات للشخصيات، حكاية تضعك أمام شرارة وتتركك أمام خيارين إما أن تنفخ فيها فتنطفئ وإما أن تحاوطها بكفيك فتستعر.
على نسق حياة "ڨدحة"المليئة بالصخب والمغامرات تتشكل ملامح السيناريو المغرق في الإنسانية والموغل في العاطفة المطرزة بعقلانية تجعلك تتفكر في الواقع من حولك وتتبدى الهوة السحيقة بين ضفتين من المجتمع التونسي.
على الضفة الأولى يتجلى وجه الحياة القاسي وتتواتر ظواهر كثيرة تستوجب الكثير من الدراسات على ضوء أسئلة من قبيل " ما الذي يدفع طفلا للسرقة؟ لتأتي الإجابة من الضفة الثاني "أصحاب الاموال يسرقون الفقراء بطرق مفضوحة واخرى مغلفة".
وان كان الحدث الأشد إرباكا في الفيلم هو تلك السرقة التي ستلازم "ڨدحة" كوشم لن يمحى والتي كانت نقطة فاصلة في العلاقة بينه وبين والدته "بركانة" التي تحمل من اسمها الكثير فالوجع يغلي في رأسها لينفجر كما من أنفها، فإن تفاصيل الفيلم من فاتحته إلى خاتمته المفتوحة على أكثر من احتمال مربحة ومزعزعة إذ هي تعري زيف العدالة الاجتماعية وقبح الطبقية وبشاعة الفقر.
الهجرة غير النظامية وصور الموت المتسللة من بين الأمواج وبداية المراهقة وما يرافقها من تغيرات واستغلال "البرجوازية" للطبقة الكادحة وغيرها من المواضيع أثارها الفيلم الذي جعل كل الأحداث تدور من حول الطفولة وشرّح دواخلها دون أن يوجه المشاهد إلى زاوية بعينها.
المرأة أيضا وجودها فارق ودورها محدد في أحداث الفيلم الذي يساعد إلى كتابة سلسة ومحبوكة تقوم على عنصر المفاجأة في البناء الدرامي إذا يلاحق المشاهد التطورات كما يلاحقها "ڨدحة" وهو يقترب من اكتشاف السر الذي جعله ينظر إلى العالم بطريقة أخرى.
ومن لقاء بين عائلتين توقف بينهما هوة مجتمعية، عائلة "ڨدحة"(بركانة(الأم) وسلمى (الأخت)) وعائلة "أسامة" ("معز" (الاب) مليكة (الأم) "قمر" (الجدة) )، تتبدى اختلافات كثيرة، العائلة الأولى تجني تبعات قرار الاب بالهجرة إلى الجنة المتخيلة دون أن يفكر في الجحيم المستعر في وجه أسرته، والثانية غايتها في تحقيق سعادتها التي تتمحور حول ابنها ولا تعبأ للوسيلة.
على إيقاع النص المطرز بالمشاعر والمفعم بالصدق والواقعية تدفعك الشخصيات كلها إلى الوقوف محلها ورؤية العالم بعينيها فتغدو غير قادر على تحديد موقفك منها ومن تصرفاتها، هي شخصيات مركبة أجاد الممثلون تجسيدها بعفوة دون مبالغة أو تصنع.
وفي أداء الشخصيات تظهر متانة السيناريو (شامة بن شعبان وأنيس الأسود) والتمكن من إدارة الممثل (أنيس الأسود وفاطمة الفالحي) وقدرة الممثلين على تطويع تعبيراتهم وإتقانهم للأداء غير اللفظي إذا قالت العيون والابتسامات والعبرات المكتومة والعبارات الصامتة أكثر مما قال المنطوق.
وكان حضور الممثل جمال العروي (والد أسامة) لافتا في الفيلم إذا انتقل بسلاسة بين انفعالات مختلفة تمتد بين الهدوء والغضب في أداء يتجلى فيه أثر المسرح الذي يدرب الخلايا والمسام على التغلغل في تفاصيل الشخصية.
درصاف الورتتاني( والدة ڨدحة) تماهت مع الدور حتى يخيل إليك أنها لا تلقي بالا للكاميرا أمامها رغم أنها تجربتها السينمائية الأولى على غرار ياسين الترمسي( ڨدحة) وأحمد زكرياء شيبوب (أسامة) الطفيان الصغيرين اللذين كانا ممثلين كبيرين أمام الكاميرا كما الشأن مع ليليا الزايدي (أخت ڨدحة) التي لا تجعلك تشعر بأنها تمثل.
شامة بن شعبان (والدة أسامة) كانت هي الاخرى بسيطة وعفوية أمام الكاميرا على غرار الممثلة أنيسة لطفي التي رغم ظهورها القليل إلا أن حضورها كان صارخا، وفي أداء محمد مرقة وأحمد العامري (صديقي ڨدحة) متنفس وتجسيد للمفارقات بين عالمين مختلفين.
قصة وسيناريو وحوارا وكاستينغ وتمثيلا وتركيبا واضاءة وموسيقى تصويرية ( سليم عرجون) يأتي فيلم ڨدحة ليلامس واقعا مكسوا بالقش الذي تناثر حينما انساقت والدة ڨدحة وراء حلم سرق من ابنها ابتسامته وليخبرنا على ألسنة الاطفال أنه ليس من السهل أن نعيش "حياة ثانية".