بقلم محمد علي الصغيّر
لا أحد بإمكانه الجزم فعليا فيما كان اختيار معارضي الرئيس قيس سعيد لذكرى الثورة يوم 14 جانفي اختيارا صائبا أم أنه بمثابة الفخ الذي نصبه هؤلاء للمطالبة بإسقاط حكم الرئيس لأنفسهم.
المؤكّد من خلال حملات التجييش والتحشيد التي تستعملها المعارضة باختلاف مواقعها وميولاتها السياسية أنها تعوّل كثيرا على هذا الموعد التاريخي لتحقيق ما يسمّيه أنصارها بـ"انتصارها الساحق" وتوجيه ما يعتبرونه "الضربة القاضية" لعرش رئيس يعتبرون أنه "منح نفسه صلاحيات السلاطين والملوك".
سواء كانت جبهة الخلاص التي يرأسها أحمد نجيب الشابي المرفوضة شعبيا باعتبارها واجهة لحركة النهضة ومواليها المطرودين من الحكم أو الحزب الدستوري الذي تقوده "الابنة الشرعية" لنظام بن علي الساقط شعبيا بعد أن قامت ضده ثورة الحرية والكرامة ذات يوم 14 جانفي 2011 او كذلك بقية "جيوب" المعارضة التي تفتقر لأي رصيد شعبي يذكر عدا بعض المئات من المقربين من مجالسها الترفيهية أو صالوناتها الثقافية او الفكرية، كل هذه المعارضات لا يبدو أنها مدركة أن خروجها الى الشارع في هذا التاريخ بالذات هو بمثابة المغامرة المحفوفة بالمخاطر.
ربما يعتقد "أنصار الرجوع الى الشرعية" من إسلاميين وكل من دار في فلكهم أن هذا اليوم هو يوم الحسم لما يمثله بالنسبة لهم من فرصة مواتية لضرب خصمهم السياسي الذي أصرّ على التمادي في ارتكاب الأخطاء، لكن دون أن يفقد كل إمكانياته.
هم يعولوّن في ذلك على حالة الاضطراب والتخبّط الحكومي في تسيير دواليب الدولة والسخط الشعبي على الأوضاع الاجتماعية المتردية والتي زاد في مداها افتقاد معظم المواد الأساسية وندرتها في الأسواق رغم إصرار الرئيس وأنصاره على أن "الأيادي الخفية" و "العملاء" و"الممثلين على حلبة المسرح" هم وراء حرمان المواطنين من هذه المواد الضرورية في حياة كل التونسيين.
اللعب على حبل التجييش وتخويف الناس من عدم ضمان قوتهم أو قوت أبنائهم وترويعهم من عودة الاستبداد وتكميم الأفواه وملاحقة المعارضين وقبر الحرّيات وتوظيف الخطاب الشعبوي الذي انبرى رئيس الجمهورية دون هوادة يسوّقه لأنصاره ولعموم التونسيين ضدّه، سلاح اختاره أنصار العودة الى دستور 2014 وإعادة إرساء المؤسسات التي انبثقت منه حتى يواجهوا به قيس سعيد الذي ما فتئ يؤكد أن "لا عودة الى الوراء" والحال أن بلادنا اليوم محكومة بدستور الرئيس الذي أقرّه وأصبح العمل به أمرا واقعا وبات من العبث بمكان الحديث عن العودة على الأعقاب.
غير أن فشل هؤلاء الدّاعين الى إسقاط الرئيس في حشد العدد الكافي من أنصارهم (ولا يبدو هذا الأمر مستبعدا) والظهور في شكل الفاقد للشعبية ربّما يعجّل في سقوطهم الشعبي والسياسي المدوّي والنهائي وإقصائهم تماما من المشهد السياسي وفسح المجال أمام قيس سعيد الذي ما فتئ يقذفهم بكل النعوت ويلقي عليهم بوابل من التهديد والوعيد في كل خطاباته حتى يثبّت حكمه إلى آخر عهدته بل وحتى لعهدة أخرى ربّما، وهو أمر غير مستبعد حسب البعض.
فلربّما تكون هذه التحرّكات الاحتجاجية، في يوم ألغى الرئيس الذي يتهم خصومه بالاستبداد والانفراد بالحكم واستهداف المعارضين، رمزيته التاريخية، هديّة الثورة الحقيقية التي يقدمها معارضو قيس سعيد لرئيسهم الذي سيتحلّى بـ"صبره المعهود" على "إيذائهم" وسيمنحهم حتما "هديّته المسمومة" بالسماح لهم بالنزول إلى الشارع للاحتجاج ضدّه رغم يقينه ما لهذا التحرّك من تداعيات محتملة، ليس على أرض الواقع حتما، ولكن اعتباريّا ورمزيّا.
على الطرف النقيض لهؤلاء الداعين الى العودة الكاملة الى ما قبل 25 من جويلية 2025، وعلى الضفّة الأخرى من ربوة المعارضة، تقف رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، التي ترفض المسارين تماما حالمة باسترداد أمجاد الماضي.
هي لا ترى خيرا في بقاء منظومة الرئيس الحالية وتدعو الى إسقاطها فورا وتعتبرها امتدادا لمسار "تدمير" الدولة وهياكلها ومواصلة في نهج "الإخوان" القائم على إسقاط كل أعمدة الدولة الوطنية.
عبير موسي التي اختارت هذا اليوم تحديدا لاستعادة ما تعتبره حق التونسيين في "الدولة الوطنية" تدرك جيدا أن هذه الفرصة لن تتكرر. فهي ترغب في إعادة إقامة حكم انهار بعد اندلاع ثورة تعتبرها انقلابا في حين أن خصومها وخصوم الرئيس يبتغون استرداد الثورة مما يعتبرونه انقلابا.
هذه الثنائية السياسية القائمة على ادّعاء أحقية الحكم والاتهام بعدم أهليته هي السّمة الأساسية التي تترجم المشهد السياسي برمّته. ولا يبدو أننا سنخرج من هذه الحلقة المفرغة والحال أن عموم الشعب انصرف الى همومه اليومية ومشاغله الحياتية مقدما بذلك استقالته النهائية من الحياة السياسية.
ولعل الأرقام الكارثية التي تم تسجيلها في الدور الأول من الانتخابات التشريعية المثيرة للجدل يوم 17 ديسمبر الماضي خير دليل على أن التونسي لم يعد يلقي بالا لمثل هذه المحطات السياسية التي يرى فيها مجرّد جولات لصراعات سياسية بعيدا عن مشاغله الحقيقية الملحّة وإهدارا لمقدّراته.
هي رسالة للأسف لم يفهمها بعد من لا همّ له سوى البحث عن التموقع السياسي في بلد تعاقبت عليه العديد من الحكومات والرؤساء في ظرف قياسي دون استخلاص العبرة والاتعاظ بما سبق.