كتب خالد كرونة على صفحته بالفايسبوك
في كتابه الممهور بعنوان :" مهزلة العقل البشري" الذي نشره علي الوردي قلعة علم الاجتماع الحصينة في العراق، وهو في الآن ذاته مؤرخ وكذا أوّل من انتصب هناك ينشر علمه الجديد، نعني الانتروبولوجيا قال : "إن من العقل أن تكون مجنونا أحيانا" ..
الراحل علي الوردي، ابن الكاظمية الذي نشأ معدما، ابنُ عائلة تقطّر ماء الورد ، فكان أن أضحى لقبها "الوردي" كافح طويلا كي يشق طريق التحصيل الدراسي ليحرز شهادة الدكتوراه سنة 1950 من جامعة تكساس هو نفسه القائل في ذات الكتاب :
"إن الذي لا يفارق بيئته التي نشأ فيها ولا يقرأ غير الكتب التي تدعم معتقداته الموروثة، فلا ننتظر منه أن يكون محايداً في الحكم على الأمور" ..
وإنما ذكرتُ د. علي الوردي حين اختلط الحابل بالنابل وأدلى الكلّ بدلوه بعدما صدر حكم قضائي عسكري حُبس بموجبه المحامي سيف الدين مخلوف وأدين غيره ممّن لايزال خارج أسوار السجن .
ومازال "الوردي" حاضرا في الذاكرة وهو يقول : "قد نرى إنساناً تقياً قد بحّ صوته في الدعوة إلى العدل والصلاح، فنحسبه عادلاً في صميم طبيعته. وهذا خطأ. إنّه يدعو إلى العدل لأنّه مظلوم" ..
وبما أننا صرنا في لحظة تونسية "مجنونة"، اختلطت الأوراق وتبدلت المواقع. ويقتضي الإنصاف العودَ إلى ما نحسب أنه من "الثوابت" لاتخاذ الموقف الأقرب إلى الموضوعية .
1 / أوّل الثوابت أنّ انتساب أي مواطن لأيّ قطاع أو سلك، لا يعفيه من المساءلة القانونية ولا يردّ عنه إمكانية محاكمته متى اقترف ما يوجب ذلك .. كائنا من كان .
2/ ليس على هذه الأرض فردٌ يدعي الانتساب إلى الدرجة الصفر من الثقافة الديموقراطية يُسرّ بمحاكمة مدني أمام المحاكم العسكرية. ولا ينبغي أن يُفهم من هذا استنقاصُ دور المحاكم العسكرية ولا الطعن في ما تصدره من أحكام .. كلّ ما في الأمر أنّ مجال الاختصاص يحتم عرض المتهم أمام محكمة مدنية .
3/ حتّى لا نغبن أحدا حقّه، ينبغي التذكير بأن "مَن بح صوته" (بعبارة الوردي) الآن، استهجانا واستنكارا، كان بالأمس القريب "مالك الملك" ولم ينصت لمئات الدعوات لتطوير التشريعات بما يسمح بمنع محاكمة المدنيين أمام هيئات عسكرية، بل على العكس، ــ في أيام حكمهم النيّر ــ يعسر عليك إحصاء أولئك الذين أحيلوا أمام هذه المحاكم من الشباب المحتج ومن الصحفيين أيضا لإخراسهم، منهم ذكرا لا حصرا حكيم الغانمي و جمال العرفاوي وغيرهما من المدونين ..
4/ ما أتاه المحامي مخلوف سواء في البرلمان ( مشهدية الورقات النقدية مثلا // وصفة كوفيد السحرية) وما قاله في شأن قاض في سيدي بوزيد أيام محنة تلك "المدرسة" المارقة، وما قاله في شأن الرئيس بصرف النظر عن حقه في معارضته ( وهذا أكيد) ،، وما فعله في المطار ،، كلها عناصر لا تشرف المحاماة التونسية.. علينا أن نقول ذلك بوضوح شديد بقطع النظر عن مواقفنا من سلطات الاستثناء السعيدية .
5/ حتى لا يتحول الأمر شماعة نعلق عليها خيبة هذا البلد، لابدّ أن نتذكر أنّ بعض هؤلاء الصارخين اليوم من أدعياء الانتساب إلى جسم المحاماة لم يخجل أيام كنا في جحيم الإرهاب نلملم أشلاء شهدائنا من التبجح بالترحم على قتلى الإرهابيين من أمثال كمال زروق و أبي القعقاع (الجمالي) ، لكن أحدا لم يسائلهم حينها لأنهم كانوا يتمتعون بغطاء سياسي سمح بكل تلك العربدة ..
6/ شرف معارضة سعيّد لا ينبغي أن يناله هؤلاء الذين "يدعون إلى العدل " لأنهم ظلموا ( كما قال الوردي).. هم ظلموا فعلا يوم تركوا في منزلة من "لا يمسّ" intouchable .. معارضو سعيّد الحقيقيون هم أولئك الذين يرون بأم العين الفشل في القطع مع منظومة مصاصي الدماء والفشل في ضرب هياكل الاقتصاد الرثة مما ولّد ـ وسيولّد لأمد غير قصير ــ استمرار معاناة الشعب بكل فئاته . أمّا جماعة الفردوس المفقود، فعليهم أن يدركوا أن "ما فات فات .. وكل ما هو آت آت" كما قال خطيب قديم فوق ربوة في نجد .
7/ أحبّ الحقوقيين ـ يشهد الله ــ حبّا جمّا .. ولكنني لا أحبّ "تكييف" القضايا (وهو مصطلحهم) على نحو يحرف قضية مخلوف ( التي تنتهي عند مسألة الجهة الحكمية) لتصير تضامنا قطاعيا أعمى. كنت أودّ أن نتذكر كيف سخر مرات على الهواء من زملائه في هيأة الدفاع.. وكنت أودّ أن نتذكّر أنّ "الجوقة" سكتت دهرا ولم نسمع لها موقفا من التلاعب بمئات ــ وربما آلاف ــ القضايا التي تهم أمن البلاد فضلا عن سواها من الملفات.. كنت أودّ أن نتذكر دفاع بعض "الحقوقيين" لسنوات عن عش دبابير المحاكم وعن رموز الفساد القضائي الذي لا تخطئه العين .
8/ أن تعارض سعيّد و حكومته و إجراءاته و دستوره و انتخاباته و شركاته وصلحه الجزائي …الخ، لايعني البتة القبول بعربدة المعربدين و الصمت المخزي عن مظالم لحقت طلابا وتلامذة و عاطلين عذبوا و سجنوا و حوكموا فقط لأنهم كانوا ضمير شعب في أيام القهر "التوافقي" واحتجوا على سياسات دولة الفساد والإفساد .
9/ ما ينفع الناس ليس العويل و إقامة مناحة لأنّ أي دولة تحترم نفسها ستعتبر ما صدر ضدّ هؤلاء من أحكام ألطف مما قد تصدره محكمة مدنية بالقياس إلى ما سلط على شبابنا حين احتج دون إهانة الدولة ومؤسساتها ومقراتها .. ما ينفع هو استخلاص العبرة .. والعبرة لا تكون بغير المبدئية، لا غير.
10/ نزعات التشفي و إظهار الشماتة التي رافقت الحكم و تنفيذه مدانة طبعا وبلا مواربة . ولكنّ تلاميذ "الوردي" من الاجتماعيين يمكنهم ــ خيرا مني ــ أن يعللوا هذا التناهش الذي آل إليه المجتمع ويمكنهم أيضا ــ فيما أقدّر ــ أن يردوه إلى أسبابه العميقة .
فكروا قليلا بما زرع القوم من أحقاد، تدركوا سريعا سبب براكين الحقد .. ومع ذلك، ينبغي التصدي لهذه الآفة التي تأتي على الأخضر واليابس.
ما أعسر أن تقول ما تفكّر به زمن مزادات الإنسانية الزائفة .. وما أعسر أن تقاسم الكثيرين الخوف من الانفراد و تعبيد الطريق أمام الأجهزة، دون أن تتحوّل ــ بوعي أو بدونه ـ كاهنا غبيّا بلا ذاكرة !
فكّر و تدبّر ..