يوما بعد يوم تمعن تونس في إذلال أبنائها، في قتل أحلامهم، في نثر دمهم على قارعة الهامش، في قتل كل أمل في التغيير.
فيما زوجة الصحفي غسان بن خليفة ورفاقه يلاحقون أخبار رفيقهم المحتجز في قطب مكافحة الإرهاب دون تهمة واضحة، يتسلل المزيد من البؤس إلى الأنفس مع نبإ وفاة مهرب إثر إصابته برصاص عون ديوانة.
محسن الزياني، شاب تونسي وجد نفسه جزءا من منظومة التهريب التي نخرت جسد الدولة دون حلول جذرية لوضع حد لها، يغادر تونس بلا عودة بعد أن تبعثر دمه في قلب العاصمة.
في "الباساج"، على الإسفلت تناثر دم محسن كما تناثرت أحلام كثيرة وسط حالة من الذهول والدهشة لمشهد يبدو وكأنه مقتطف من فيلم بوليسي تنتهي فيه مطاردة أمنية بمقتل المطلوب للعدالة.
الفرق بين مشهد إعدامه على الملإ وبين مشاهد الأفلام، أن أولئك الذين يؤدون أدوار البوليس يتدرجون في استعمال القوة ولكن في تونس يصيبون الضحية في مقتل، بارعون هم في قنص الأرواح. حقوق الإنسان، الحق في الحياة، المواطنة، مفردات تتهاوى على أعتاب حقيقة واحدة واضحة في تونس هي أن لا قيمة للإنسان فيها، وإلا لما سمح عون الديوانة لنفسه بإطلاق النار في شارع مكتظ بالمارة، ولما سمح لنفسه أصلا بإطلاق النار لوجود أساليب أخرى للتعاطي مع الموقف.
ولجوقة المبررين التي ستنتصب ألسنة دفاع عن القاتل، صحيح أن عملية حجز البضاعة المترتبة من مسالك موازية وغير قانونية في بلد لا شيء قانونيا فيه شهدت تصديا من مجموعة من المواطنين لكن ذلك لا يُعد بأي شكل من الأشكال مبررا لإنهاء حياة شاب لم يكن يحلم بغير الحياة.
حجز بضاعة مهربة تعقبه مناوشات مع الباعة، يصاب عون ديوانة بحجر في وجهه فيلجأ زميله إلى الرصاص وتُزهق روح لم تنشد الخلاص، تسلسل درامي إن دل على شيء فيدل على حالة العبث التي تعيش تونس على وقعها وعلى عدم القدرة على احتواء المواقف بأخف الأضرار.
وأمام نزيف التعليقات على الحادثة التي أسقطت أوراق التوت عن عجز الدولة الذي يتفاقم يوماً بعد يوم، تتزاحم في الذهن أسئلة كثيرة عن أخطبوط التهريب في تونس وعن التجارة الموازية وعن الدولة العاطلة وعن خط وصول البضاعة المهربة إلى تونس.
سيل الأسئلة لا يتوقف وصوت النحيب يتسلل من الفيديوهات التي أغرقت الفضاء الافتراضي ووشحت الواقع باليأس وسط تغول ظاهرة التهريب التي استنزفت دماء كثيرة دون أن ترتوي.
مهربون يلقون حتفهم على الحدود وأعوان ديوانة وحرس كان بعضهم ومازال قربانا لهذه الآفة. شحنة دخان بلغت العاصمة تحديداً "الباساج" قبل التبليغ عنها ولا أحد يعلم من أين أتت وكيف أتت ومن خطط ودبر ونفذ لتدخل كل تلك البضائع المهربة إلى تونس ولا أحد يعلم من هي الحيتان الكبيرة التي تختبئ وراء شبان لفظتهم الدولة واحتضنهم التهريب.
"كرطوشة" الدخان قابلتها "كرطوشة" مسدس وتحولت ساحة "الباساج" إلى ركح تلاحق فيه الدولة أنفاسها الأخيرة ودوت أربع رصاصات في الأثير ومات محسن الزياني واصيب عون ديوانة إصابة خطيرة واقترف زميله فعل القتل وسط إخلالات كثيرة..
وتستمر الأسئلة في التدفق على وقع الفوضى التي تغرق فيها تونس وتتهاطل السيناريوهات المحتملة في المخيلة، لماذا لم يمتثل محسن الزياني لأعوان الديوانة؟ لماذا خير الهروب وهو يعلم أن الأمر سيفضي إلى إطلاق الرصاص؟ ماذا لو امتثل؟ ماذا لو خير السجن على الحياة؟ في كل الحالات لا مهرب من تجرع المر في تونس..
في الضفة الأخرى، ماذا لو درس أعوان الديوانة العملية من زوايا أخرى؟ لماذا خيروا المواجهة في قلب العاصمة؟ لماذا استهدف المناصرون لمحسن عون الديوانة في وجهه؟ لماذا أطلق زميله أربع رصاصات دون ميزان؟ لماذا صار العيش في تونس أشبه بالغابة؟
يسرى الشيخاوي