هل جرّبت يومًا أن تعيش وسط القمامة وتملأ رىتيك برائحتها؟ هل جربت أن تفرح عندما تصطدم عيناك بـ"بطيخة" مكشوفة آوتها حاوية الفضلات قبل ان ترمي بها شاحنة في المصب؟ هل جربت أن تنتشي لمجرد أنك عثرت على قوارير عصير منتهية الصلوحية؟ هل جربت أن تقتات وأكوام الفضلات تحاوطك من كل صوب؟ الشخصيات التي مرّت في فيلم "الوجه الآخر" للمخرجة الشابة مروى طيبة خبروا هذه المواقف وتعايشوا معها حتى صارت جزءا من يومها.
"الوجه الآخر" وثائقي قصير عن البرباشة في مصب الرديف يعري كذبة العدالة الاجتماعية ويكشف معاناة مواطنين قررت كل الظروف ان يكونوا من درجة ثانية، مواطنين كتب عليهم العيش وسط الفضلات حتى ألف تفاصيلها ورائحتها ورسخت في ذاكرتهم وطبعت حياتهم.
المشاهد التي يعرضها الفيلم موجعة جدا إلى درجة أنك تتمنى لو كان الفيلم روائيا، حتى الابتسامات التي تتبدى لماما ترشح وجعا في فضاء لا شيء فيه يوحي بالحياة سوى أجساد البرباشة المتنقلة بين الفضلات في رحلة البحث عن شيء صالح يلقونه في الأكياس التي يرونها خلفهم كما تجر الدولة العاطلة خيباتها.
الفيلم محمل بسيل من الأمل الذي يتسرب إليك من بين الصور والأصوات ويدفع إلى التساؤل عن شعور المخرجة وهي ترصد حركات "البرباشة" وسكناتهم بتصور حياتهم داخل المصب دون مساحيق تجميل ويلح عليك السؤال أكثر فأكثر على وقع كلمات تترجم رفضا للتصوير.
قبل الخوض في كيفية إقناعهم بالتصوير بعد أن أبدوا رفضا، سألت حقائق أون لاين المخرجة مروى طيبة عن السبب الذي دفعها إلى تصوير فيلم عن مصب الفضلات و"البرباشة"، فقالت إن الفكرة تعود إلى ثلاث سنوات قبل الانطلاق في تجديدها سنة 2020 إذ كانت تمر بالقرب من المصب وتلاحظ ألسنة الدخان المنبعثة منه ومجموعة من الأشخاص وكانت في كل مرة تتساءل عما يفعلونه هناك، وفق قولها.
هذا التساؤل لازمها ورسخ في ذهنها لتعود إلى نفس المكان بعد ثلاث سنوات ليكون فيلمها الخاص بمشروع التخرج عن "البرباشة"، ولم تكن المهمة سهلة في البدء اذ رفض بعضهم التصوير وتفهمت موقفهم لكنها لم تيأس وظلت تزورهم يوميا على امتداد أسبوعين، حسب حديثها.
خمسة عشر يوما، أمضتها وهي ترقب خطواتهم دون تصوير وكان حضورها "مزعجا" لبعض "البرباشة" الذين سئموا استثمار معاناتهم في وسائل الإعلام دون الوصول إلى حلول جذرية، وقد بلغ بهم الأمر حد رشقها بالقمامة ولكنها رابطت في المصب وكانت لا تفوت الفرصة للحديث مع أحدهم، على حد تعبيرها.
وبعد ان لمسوا فيها التزاما بقضيتهم وإحساسا بمعانتهم سمحوا لها بالتصوير داخل المصب وكان فيلم " الوجه الآخر" الذي ترسم فيه المخرجة وجها آخر لتونس وجها تسوده الفضلات وتروي فيه قصصا يتقاسمها أكثر من خمسين شخصا في المصب تمتد أعمارهم من الطفولة إلى الشيخوخة.
"ما الفرق بين عملنا في مصب الفضلات، وبين عملك؟ نحن نركض وراء القوارير الفارغة وأنت تركضين وراءنا من أجل تصويرنا، السينما أيضا مهنة صعبة" تستحضر مروى طيبة هذه العبارات التي توجه بها أحد الشخصيات إليها وهي حسب رأيها دليل على أنها خلقت أريحية بينها وبين العاملين في المصب حتى صاروا يخوضون معها بعض النقاشات.
وفي حديثها عن هذه التجربة الإنسانية التي مكنتها السينما من خوضها قالت " هم شعروا أنني مهتمة بحكاياتهم، أقاسمهم الأكل والضحك وتفاصيل كثيرة وإلى اليوم تربطني بهم علاقة خاصة وأزورهم كلما سنحت لي الفرص".
وعن تطرق مسلسل حرقة لموضوع "البرباشة" أعربت عن فرحها بمشاهدة الشخصيات التي التقتها على أرض الواقع وتمثلها لنفس العلاقات والمشاعر التي تجمع بينهم خاصة تلك اللحمة التي نشأت بينهم وهم يلاحظون قوت يومهم في المصب".