سيل من الوجع اجتاح مدينة جرجيس لمّا تسرّبت الموت إلى قارب هجرة غير نظامية فحملت معها أرواحا كانت تتوق لمعانقة "الجنة" على الضفة الأخرى المتوسط ورمت بأخرى في بوتقة التيه والضيعان.
18/18 رمز مكون من عددين الأول تاريخ انطلاق مركب الهجرة غير النظامية نحو أفق آخر في الثامن عشر من سبتمبر الماضي والثاني عدد الحالمين بغد أفضل بعيدا عن وطن صار يشبه مركبا غزته الثقوب وتسللت إليه المياه حتى غدا مترنحا منفتحا على أكثر من سيناريو.
تشابه العددين ليس اعتباطيا، هو القدر يحمل بين طياته تذكيرا بتشابه ملاحم المهاجرين غير النظاميين في عرض البحر، وتشابه وجع الأمهات والآباء وكل العائلات، وتشابه حرقة انكسار الحلم على شفا الأمواج.
رمز الفاجعة التي تداعت لها تونس التي أجبرتها سياسات الهواة والمتسلقين والانتهازيين ومسؤولي الصدفة على أن تلفظ أبناءها وتدفعهم دفعا إلى الهجرة وإن كلفهم ذلك أرواحهم، ليس إلا عنوانا لفشل الدولة في احتواء أبنائها أحياء ومفقودين وأمواتا.
عجز الدولة على التحرك السريع وعلى استيعاب غضب العائلات المشحونة بوجع الفقد يعري مرة أخرى الهوة بينها وبين المواطنين الذين استجاروا بالأمواج الهوجاء من لامبالاتها وعطالتها.
كل اللغات مجتمعة وكل الإشارات وكل الايماءات وكل الصرخات المستعرة بالصمت لا تقوى على وصف مشهد أم مكلومة ولت وجهها شطر البحر تناجيه لعله يرأف بها فيحمل موجه جسد ابنها إلى الشاطئ، ولا وجع عائلة دفنوا ابناءها في مقبرة الغرباء وكأنها تصر على تذكيرهم بأن المواطنين فيها درجات.
من يعيد ثقة أهالي جرجيس ممن فقدوا أبناءهم سواء تسلموا جثثهم أو لم يتسلموها في هذه الدولة التي بخستهم حقهم في المعلومة وتلاعبت بعواطفهم واستخفت بغضبهم الذي سرى في كل ثنايا تونس تضامنا معهم؟ من يمحو كل ذلك السواد الذي كسا المدينة على وقع بحث أهلها عن إجابة، لا شيء غير إجابة تشفي غليلهم.؟
وفيما ينتظر الكثيرون مآلات التحقيقات في فاجعة جرجيس بإذن من رأيس الجمهورية قيس سعيد على أمل ألا تصير نتائجها نسيا منسيا، حاولت رياليتي أون لاين عبر موفدها رياض ساحلي أن تنقل بعضا من ملامح الوضع في جرجيس عبر شهادات من المدينة التي صارت فيها ثنائية الحياة والموت تحاكي لغزا أو متاهة.
وفي الشهادات التي ترشح وجعا تحدث أب عن ابنه المفقود وعن الهوة بين الأجيال وعن حلم تحسين الظروف المعيشية، فيما تحدث أخ عن فقدان أخته وابنتها وستة أفراد آخرين من العائلة وعن مماطلة السلطات في كشف نتائج عمليات البحث والاختبارات وتحدث كهل عن تلاشي حلمه بتكوين عائلة مقابل تشبثه بحلم الهجرة مع غياب التواصل بين المواطنين والمسؤولين ولكن أيضا تحدث شاب عن تمسكه بالبقاء في تونس حيث يحقق أحلامه.
.jpg)
وبحرقة الأب الذي لا يحمل إبنه صفة مفقود يقول سليم زردات والد وليد زردات (15 سنة) إنها المرة الثانية التي يحاول فيها ابنه الهجرة بطريقة غير نظامية، مشيرا إلى أنه يجاري أترابه الذين غادروا جرجيس ويحاول أن يضمن لنفسه عيشا أفضل.
وفي حديثه عن وضعية ابنه في تونس، أشار إلى أنه انقطع عن الدراسة رغم تحصله على معدلات جيدة كانت تخول له الالتحاق بالمعهد النموذجي ووضع "الحرقة" نصب عينيه.
وعن تقييمه لقرار ابنه بالهجرة غير النظامية، يلاحظ أنه ليس بإمكانه أن يحدد إن كان صائبا أو مخطئا وأن أساليب تواصل جيل اليوم غير أساليب تواصل الأجيال السابقة وهو ما يجعل عملية فهمه والتعامل معه صعبة ولكن الأكيد أنه كان إذا فكر في شيء لابد من أن ينفذه.
في مواصلة لحديثه عن الواقع في تونس، يشير إلى صعوبة العيش وغلاء الأسعار الأمر الذي جعل الأولياء ينكبون على توفير الظروف الملائمة أكثر من الاهتمام بالأطفال الذين صاروا يحددون مستقبلهم بأنفسهم.
وفي حال لم يتعرف الأهالي على مصائر أبنائهم المفقودين فإنهم سيخوضون إضراب جوع في تصعيد لتحركاتهم الاحتجاجية المطالبة بكشف كل الحقائق المتعلقة بفاجعة جرجيس، وفق حديث سليم زردات.

أما مراد بوبطان الذي تخطى مرحلة الشباب وهو يحلم بتكوين عائلة وبناء منزل لترتطم أحلامه بالواقع القاسي وهو اليوم كهل (45 سنة) ذوت كل أحلامه ولم يصمد منها سوى حلم الهجرة.
وعن الهجرة غير النظامية يقول محدث رياليتي أون لاين إن إخوته الاربعة خارج تونس وأنه في تونس يؤنس والدته، مشيرا إلى أن المواطن في تونس لا يحظى بالاحترام والمعاملة الجيدة.
كما يضيف أن من بين الاسباب التي تجعله يحلم بالهجرة هو تحسين وضعيته وسط تفاقم غلاء الأسعار وتدهو القدرة الشرائية للمواطن، مطالبا في سياق آخر السلطات المحلية بتفسيرات وإيضاحات بخصوص حيثيات غرق مركب الهجرة غير النظامية.
.jpg)
والمأساة تتخذ وجهة أخرى مع عقبة بن عويدة الذي تحدث عن ثمانية من أفراد عائلته ركبوا الأمواج العاتية ولم يقووا على مجاراته، مشيرا إلى تسلم جثتين فيما بقيت ست جثث مفقودة .
عند تطرقه لتعاطي السلطات المحلية مع هذه الفاجعة يقول إن الخطاب متذبذب وسط تضارب في المعلومات، مضيفا " نريد أبناءنا..نريد أن ندفن جثثهم.. نريد معرفة الحقيقة.
كما تحدث عن غياب قنوات التواصل مع المسؤولين في الجهة وعن ضرورة تلافي ذلك، مشيرا إلى أن كل أهالي جرجيس يد واحدة وصف واحد من أجل كشف الحقيقة.

ومن بين أكوام الوجع والغضب يظهر بصيص من الأمل في تصريح الشاب جوهر التواتي (18سنة) الذي يدرس في مجال التكوين المهني في تطاوين والذي يطمح لأن يكون صاحب مشروع في تونس.
وإن يتشبث جوهر بالبقاء في تونس إلا إنه يستوعب رغبة الكثيرين في الهجرة لتفشي البطالة والمحسوبية لكنه أيضا يرفض فكرة المخاطرة عبر الهجرة غير النظامية.
وفي رسالته للشباب الذي تسرب إليه اليأس من أكثر من صوب، يقول جوهر إن الوضع سيئ وإن تونس لا توفر مواطن شغل للشباب لكن لابد له من أن يصنع طريقه وأن يدرس وينجح..
*صور رياض ساحلي