صوت بن علي يصدح مبشّرا بفجر جديد لم يلبث أن غشّاه السواد والدم، وحياة طفل تنتهي وهو في طريق اللعب، لعب رسم ملامح "آخر نهار " في هذا العالم.
فيما بن علي ينمّق الكلمات ويرتّبها ليغوي المواطنين والمواطنات بغد أفضل، تتشكل معالم جريمة في حق الطفولة، جريمة تعيد الذاكرة سنوات إلى الوراء في وقت صار فيه "الناصر الدامرجي" حديث الكل.
من حكاية "الدامرجي" او "سفاح نابل" استلهم المخرج قيس الماجري الفيلم الروائي القصير "آخر نهار" الذي عرض في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية القصيرة في مهرجان أيام قرطاج السينمائية.
والفيلم مفعم بالإثارة والتشويق في حبكة درامية تجعلك تتمنى ألا يظهر جينيريك النهاية رغم كم الوجع والألم والعنف والقسوة التي تسكن تفاصيله، وهو من تمثيل محمد قريع وجمال المداني وأسامة كشكار ومحمد يحي الخزري ومن إنتاج " بروباغندا".
إلى سنة 1987، تحملك كاميرا قيس الماجري وتغوص بك في زوايا وأركان مربكة ومروّعة وتضعك وجها إلى وجه مع "سفاح" يروي جريمته بكل برود، ومع كل حركة وإيماءة صادرة عنه يدفعك إلى مساءلة الإنسانية من حولك.
قبل هذه الخلوة التي تطالع فيها قسمات وجه "السفاح" ساعة الجريمة وتلامس سلوكه غير المنطقي، يخفت صوت بن علي على أعتاب حوار بين محقق ومساعده.
في مكان مقفر وممتد حتى تخال ألا حدود له تبحث الشرطة عن أدلة بخصوص مقتل طفل صغير لتفضي التحقيقات إلى خفايا كثيرة تستمد قبحها من قضية سفاح نابل.
23 دقيقة هي مدة الفيلم التي ربما تحيل إلى 23 سنة، مدة حكم بن علي، مدة تقضيها محاولا أن تجابه سيل الارتباك الذي ينتابك كلما اقتربت الكاميرا أكثر من داخل السفاح وعرته وصارت غرابته وقبحه شفافين لا أغطية عليهما.
وعلى إيقاع طقوس بصرية استمدت وجودها من لون الدم، يتبدى نوع الفيلم "نوار" أو الفيلم الأسود في ترجمة حرفية عن الفرنسية في ثنايا"آخر نهار" الذي يقوم على حبكة استقصائية تفضي في النهاية إلى معرفة حقيقة مقتل الصبي وغيرها من الحقائق الأخرى.
من تدرجات اللون الأحمر ومن الإضاءة التي تنهل من نفس المعين، يعكس المخرج سايكولوجية شخصية "السفاح"التي أدّاها الممثل محمد قريع بصدق وعمق ودون تصنّع أو مبالغة في الأداء.
حينما تختلي الكاميرا بـ"السفاح"، تضفي الظلال ودرجات الإضاءة القاتمة بعدا آخر على الشخصية وتغذي مكامن التشويق في الفيلم وتزيد من وتيرة الضبابية والغموض كلما تعرّت الحقيقة أكثر فأكثر على إيقاع تساؤلات وجودية.
ومن عناصر الفيلم نوار في "آخر نهار" صوت الراوي وهو صوت "السفاح" نفسه يكشف عن خبايا الشخصية وعن الظروف التي أدت بها إلى هذه السبيل المخضبة بالدماء، بالإضافة إلى تكرر مشاهد "الفلاش باك" التي تمنحك في كل مرة فسحة لتسترجع أنفاسك وتستوعب الموقف.
وبعيدا عن الأسلوب الإخراجي وعن حركات الكاميرا التي تلاحق اضطراب "السفاح" وتصور بعضا من وجع الضحية، يشد أداء الممثلين الأنظار بدءا بالتناغم بين الممثلين جمال المداني وأسامة كشكار في دوري المحقق ومساعده وقدرتهما على تجسيد الشخصيتين ببساطة وصدق وصولا إلى الطفل محمد يحي الخزري الذي كان مقنعا جدا في دوره والممثل محمد قريع الذي أتقن أداء الشخصية المركبة.