في ثنايا القرية الفرنكفونية بجربة، جال عرض "شاوية" لنضال اليحياوي بالجمهور في ذاكرة سكّان الجبل بما تحمله من ثورة وحب، ونقل لهم بعضا من صدى آهات الصخور في منطقة الأوراس.
وأمام الركح حيث تماهى العازفون مع آلاتهم الموسيقية وصدح صوت نضال اليحياوي ليروي حكايات "الشاوية" رقصت الأجساد بخطوات صاخبة ومجنونة، تحاكي موسيقى متمرّدة لا تأبه للتصنيفات.
وفيما ينصهر الحنين والواقع والحلم لا تنفك الألحان والإيقاعات تدعو جمهور القرية الفرنكفونية إلى محاكاتها والرقص على نسق زمن موسيقي يتراءى فيه الماضي والحاضر والمستقبل.
رقصات شبيهة بالموسيقى، متحررة مفعمة بالفرح خارج التوصيف والتصنيف، لتراوح الأجساد بين حركات الرقص التونسي والغربي وتشكّل فسيفساء متحرّكة.
رحلة فنّية حسّية في عالم الشاوية، رسم نضال اليحياوي معالمها بصوت مدوّ يعكس طبيعة جبال الأوراس، وموسيقى جلبت الماضي إلى الحاضر ودعت إليه المستقبل، فكانت عنوانا لقدرة الفن على تشكيل فضاء سرمدي خاص يستمد وجوده من زخم النوتات.
بكلمات أصلية لم تسقط عنها خصوصيتها، وموسيقى متفرّدة تجمع بين المتناقضات، وصوت محمّل بحكايا قبائل الشاوية، صار لمنطقة الأوراس روح حرّرتها النوتات من أسر الجغرافيا، وفي مدينة الحمامات الساحلية رنّ صوت الجبال على إيقاع رقص الجمهور
وكعادته، حينما يغنّي نضال اليحياوي، على وقع الألحان التي تخلقها أنامل المجموعة الموسيقية المصاحبة له يحملك صوته إلى طقوس "العولة" وتجمعات النسوة في "الحوش"، وتقاليد الأعراس في من "العقيرة" و"المحفل" و"النجمة"، وجلسات النسوة خلف "السداية"، وحلقات "التقرديش" وغزل الصوف.
على الركح، ينساب صوته ليحكي قصصا من رحم الجبل، قصصا عن الحب والفراق والغزل والتغزل بالمرأة ومفاتنها، تؤنسه في ذلك القصبة والبندير اللذين يعدان من دعائم الغناء الشاوي.
في تصوّر موسيقي، لم يطمس هويّة البندير والقصبة، يخاطب الغناء الشاوي موسيقى الروك والجاز والبلوز ويخلق نمطا موسيقيا عالميا ترسم آلات الغيتار والباص والدرامز معالمه، ولا تخلو موسيقى " شاوية" من الإيقاعات الإفريقية التي تتسل بين الأغاني.
هي توليفة موسيقة متفرّدة، تمتزج فيها أصوات الآلات القادمة من عوالم مختلفة لتحاكي الحياة بكل تناقضاتها، وإذا عازف الغيتار مهدي البحري داعب أوتار رفيقته انسابت نغماتها ثائرة فتحاكيها نغمات الباص المتمرّد إذا لامسته أنامل العازف مروان سلطانة، وتأخذك القصبة، إذا نفخ فيها كمال التاغوطي من روحه، إلى زمن الطفولة وحكايات الجدّات، وإذا مرّر معتز عوينتي يده على وجه الطبل تتسلل إليك أصوات الفرح وأجراس الكاليس وحكايات "المهراس" المعتّقة، ويترجم الدرامز صخب الحياة وصدى الجبل إذا ما لاعبه سيف الوهيبي.
على إيقاع "عين السودة" و"لسمر خويا" وأغان أخرى تحملك إلى أيام الطفولة حيث تصدح النساء بأصواتهن دون موسيقى، رقص الجمهور، وكان المسرح في القرية الفرنكفونية فضاء للانتشاء فموسيقى "شاوية" تلبّي كل الأذواق الموسيقية دون أن تغلّب نمطا على آخر.