في المرة الثالثة التي أعود فيها إلى تونس بعد سفر خارجها، يتعاظم داخلي التعلق بهذا الوطن الذي توفرت فيه كل أسباب مغادرتي ولكنني لن أفعل وسأكتفي بالتساؤل عن سر تلذذي بالمساوئ التي تطل برأسها من كل صوب.
في اليوم التالي لعودتي من جدة (السبت)، أتحسس أشيائي وأحسن تفاصيل غرفتي وأجول بعيني بين وجوه عائلتي ويبتسم قلبي وأنا أستعد لملاقاة أصدقائي في نزل أفريكا بشارع الحبيب بورقيبة.
الرياح تعبث بخصلات شعري وأنا أنتظر سيارة تاكسي لم تحل إلا بعد أن استنزفني الترقب وسرى ألمه في جسدي وروحي ومضيتُ إلى وجهتي وسيل التساؤلات لا يتوقف.
في الطريق إلى شارع الحبيب بورقيبة، يتحدث سائق التاكسي عن غلاء الأسعار وتدهور الوضع الاقتصادي وعن الحملة الانتخابية وأكتفي بهز رأسي دون كلام حتى تجاوزنا مدينة الثقافة على مستوى شارع محمد الخامس.
على بعد أمتار من شارع الحبيب بورقيبة توقفت حركة سير العربات بسبب تحرك احتجاجي لجبهة الخلاص ذكرني به سائق التاكسي وهو يتذمر من غلق الطرقات ويتأفف من الوضع الآيل إلى الانفجار.
لم يسكت السائق عن الكلام وأنا أسلمه الأجرة وكنتُ أراوح بين هز رأسي وابتسامة بلهاء يبدو أنها كانت تستفزه ليسترسل في الحديث لكني كنت تائهة بين أسئلتي حتى وضع في يدي الممدودة ما تبقى من نقود.
"الله يهديهم كل مرة يسكرو الشوارع ويوحلونا" تسللت كلماته بوضوح إلى أذني. حينها فقط انتبهت إلى المسافة التي تفصلني عن نزل الأفريكا، مسافة بدت طويلة جدا وأنا مثقلة بمشاعري المتناقضة.
على نسق لملمة نفسي، سرت في اتجاه شارع الحبيب بورقيبة وكلما خطوت خطوة يخيل إلي أن المسافة تزداد طولا حتى وصلت أول الشارع لتعترضني الحواجز الحديدية حينها ارتسمت أمامي سيناريوهات البحث عن منفذ للوصول إلى وجهتي.
شارع الحبيب بورقيبة مغلق على مستوى الساعة، عدت أدراجي، خطوتُ ببطء في اتجاه أول منفذ واصطدمت بالحواجز الحديدية مرة أخرى وكذا الأمر على مستوى شارع مرسيليا حيث حاجز من الأمنيين في أوله وحواجز حديدية.
حواجز حديدية في جميع المنافذ تصد المواطنين وتدفعهم إلى العودة على أعقابهم وهم يتذمرون وأنا أراقب السأم في أعينهم وأتبع خطاهم بحثا عن الطريق المؤدية إلى شارع الحبيب بورقيبة.
شارع باريس هو المنفذ الذي حج إليه كل من صدهم الأمنيون والحواجز التي نثرتها الداخلية في الطرق المؤدية إلى الشارع الرمز ومنه تراءى المحتجون من أنصار جبهة الخلاص وتعالت أصواتهم منادية بإسقاط النظام.
فيما تتعالى أصوات المحتجين أمام المسرح البلدي بإسقاط قيس سعيد وإسقاط الانقلاب غص شارع الحبيب بورقيبة بالوحدات الأمنية وسياراتهم، أمنيون بالزي المدني وآخرون بالزي النظامي. بعضهم يعانقون خوذاتهم ودروعهم ويتأهبون تحسبا لأي طارئ.
في الأمتار القليلة المؤدية إلى نزل أفريكا صارت الطريق مطرزة بالحواجز الحديدية وسكن الغضب في أعين المارة الذين صار مرورهم بشارع الحبيب بورقيبة ملحميا.
ومع الاكتظاظ الذي يتحول إلى تدافع في بعض الأحيان يقفز إلى ذهني سؤالان ملحان: لماذا كل هذه التعزيزات الأمنية في محيط وزارة الداخلية؟ لماذا لا تخلق الوزارة بديلا لكل هذه المشهدية للتعامل مع الاحتجاجات؟
على بعد سويعات من اختتام أيام قرطاج المسرحية أمام نزل أفريكا حيث يستعد ضيوف المهرجان لحضور حفل الاختتام رابطت سيارات أمنية كثيرة وبدأ محيط النزل محاصرا من كل الجهات.
هي المرة الأولى التي أرى بها الاحتجاجات من عين أخرى، عين مواطنة اضطرت إلى جانب عشرات المواطنين إلى مضاعفة خط سيرنا لنتمكن من الدخول إلى شارع الحبيب بورقيبة، وعين صحفية يستهويها مجال الثقافة سئمت من "غزوة" الأمن لمشهدية التظاهرات الثقافية.