"الفلوجة"، المدينة العراقية الرمز التي صمدت في وجه الاحتلال الأمريكي في معركة أولى أعقبتها معركة ثانية تخضبت فيها الأرض بدماء العراقيين وخسرت المدينة الكثير من معالمها، هذه المدينة التي كانت رقما صعبا في الحرب الأمريكية على العراق حتى أن الجيش الأمريكي استعمل أسلحة محرمة لتركيعها، ألهمت المخرجة سوسن الجمني فجعلتها عنوانا للمسلسل الذي انطلق عرضه مع أول أيام شهر رمضان.
ومنذ مشاهده الحلقة الأولى أثار المسلسل سيلا من الانتقادات التي راوحت بين ماهو عقلاني وماهو انفعالي حتى أن بعض ردود الأفعال على المسلسل قد اتسمت بالسريالية، من ذلك تقديم عريضة استعجالية لإيقافه.
والمسلسل الذي يقتبس عنوانه من مدينة عايشت ملحمة إنسانية وكانت فضاء لمعارك لا تُنسى، لا يحاكي مدينة الفلوجة إلا في تلك الفوضى التي خلقها الاحتلال وحالة اللااستقرار ودوران عقارب الساعة في اتجاهات لا تخضع لنواميس.
وإن كان معنى الفلوجة في اللغة هو الأرض الصالحة للزراعة حيث تتفلج تربتها حين يمسها ماء السماء عن خيرات الأرض، فإنها تتخذ معاني أخرى في المسلسل الذي يعرض على قناة الحوار التونسي إذ تصور فضاء يتفجر عن الفساد والانحراف وتصدع القيم والأخلاق.
والحديث عن سيل الانتقادات التي يواجهها المسلسل في حلقته الأولى التي يحاكي نسقها القفز على الألغام، لا يسائل حرية "الإبداع" أو الكتابة أو يحاكم عملا "فنيا" يخضع للخيال في نسج ملامحه بل يحيل إلى انعكاسات استسهال طرح بعض المواضيع أو الظواهر في التلفزة.
اليوم لا يمكن بأي شكل من الأشكال إحياء نظرية التأثير والتأثر في الإعلام الكلاسيكي (التلفزة ، الراديو، الجرائد) التي اختنقت أنفاسها في ظل غزوة وسائل التواصل الاجتماعي ولكن ذلك لا يعني إغفال بعض الإجراءات "الشكلية" على غرار التنصيص على السن المسموح بها لمشاهدة المسلسلات.
وفي هذا السياق يبدو تعليق القاضي عمر الوسلاتي رصينا إذ أكد أنه يجب على قناة الحوار التونسي تحذير المشاهدين والأولياء ومنع الأطفال من متابعة مسلسل الفلوجة لما يتضمنه من تصرفات خطرة جدا على المتابعين من الاطفال والمراهقين ووضع الإشارة اللازمة لذلك.
ممنوع على من هم أقل من 16 سنة، كانت هذه دعوة الوسلاتي للتنصيص على السن المسموح بها لمشاهدة المسلسل الذي يحمل في تفاصيله عنفا ماديا ولفظيا ورمزيا ويتطلب قدرا من الوعي للتعامل مع تفاصيله.
وبعيدا عن عناصره الفنية التي تتطلب الكثير للحديث عنها، يثير "فلوجة" من حديد الجدل بخصوص إعادة صياغة الواقع في المسلسلات التلفزية على شاكلته وبخصوص الفن من أجل الفن أو الفن من أجل غايات تجارية ربحية.
ومسلسلات الحوار التونسية أسست لنفسها منهاجا لا تريد الحياد عنه فهي تنهل من الظواهر المجتمعية وتعيد تشكيلها مع طفرة من المبالغة والغلو وتقدم شخصيات تدغدغ مشاعر جموع الأطفال والمراهقين في محاولة لخلق "جمهور" يحول دون تهاوي نسب المشاهدة.
وضع المنظومة التربوية المتدهورة ومظاهر الانحراف في الأوساط المدرسية لا ينكره عاقل، والشرخ بين المربين والتلاميذ يتسع يوما بعد يوم ولكن ذلك لا يحجب نقاط الضوء ولا يعني أن المنظومة انهارت تماما.
وإن كان المسلسل يستحق ورقات حمراء في أسلوب الطرح الذي مازال قيد التشكل في أولى الحلقات، فإن ذلك لا يبرر العريضة الاستعجالية لوقف بثه والتي تفتح باب النقاش على مصراعيه حول الرقابة والصنصرة.
وجاء في العريضة الاستعجالية التي قدمها صابر بن عمار وحسن عز الدين الدياب أن " العارضين هم من الأولياء الذين تفاجؤوا بما تم بثه وبحضور أبنائهم الذين انصدموا من هذا المحتوى في شهر رمضان. وحيث عرفت هذه القناة بالبحث عن الربح في شهر رمضان بأي السبل وهذا المسلسل حلقة جديدة من مسلسل الاعتداء الصارخ على كل مشترك إيجابي يجمع هذا الشعب وخاصة رمزية اسم الفلوجة لما عرف عنه (من رمزية) للتضحية والمقاومة.
وحيث كان يجب على القناة تحذير المشاهدين والأولياء لمنع الأطفال من متابعة مسلسل الفلوجة، الذي تنتجه قناة الحوار التونسي ، لما يتضمنه من تصرفات خطرة جدا على المتابعين من الأطفال والمراهقين والمربين والأمنيين،
وحيث ان هذا المسلسل يتعمد ضرب الاخلاق والتربية من خلال تعمد نشر البذاءة والتفسخ الأخلاقي الممنهج لإفساد عقلية شباب جيل الغد والقضاء على قيمنا التربوية والثقافية وأخلاقنا الحميدة،
وحيث أن المسألة متأكدة إذ أن استمرار بث هذا المسلسل يعكس حالة خطرة جدا على قيمنا العربية والإسلامية في مخالفة صريحة لمجلة حماية الطفل إذ ان ما تم عرضه في المسلسل فيه تعريض الطفل للخطر ومنهج لتدمير الأسرة التونسية،
لهذا ولهذه الأسباب فالرجاء من جنابكم الموقر التفضل بالحكم استعجاليا بالزام المطلوبة بإيقاف بث مسلسل "فلوجة" من قناة الحوار التونسي وغيرها من القنوات والإذن بالتنفيذ على المسودة".
وبعيدا عن هذه العريضة التي وإن كانت تندرج في إطار الحريات والحق في التعبير والنقد فإنها تجعل من المسلسل شماعة للوضع التربوي والقيمي الذي تتشابك فيه أسباب عدة، فإن ما كشف عنه كاتب عام الجامعة العامة للتعليم الثانوي لسعد اليعقوبي بخصوص الصفقة بين صاحب قناة الحوار التونسي ووزارة التربية يدعو إلى التفكّر.
ففي تدوينة على صفحته بالفايسبوك قال اليعقوبي إن وزارة التربية وقعت عقدا مع صاحب القناة وسمحت بتصوير مسلسل "فلوجة" بمعهد رادس بعد أن حولوا اسمه الي معهد بورقيبة مقابل التبرع ببعض اثاث التصوير للمعهد المذكور.
في سياق متصل أضاف "حذرنا وزير التربية فتحي السلاوتي والذي اتضح انه لم يكن علي علم بهذا العقد وأن مصالحه قامت بإمضاء الاتفاق دون اعلامه ولكن الوزير عاد ليؤكد ان المسلسل سيخضع لرقابة الوزارة وستتوجه الي الهايكا لطلب منعه لمخالفته العقد قبل حلول شهر رمضان.. بدأ العرض دون رقابة ولا حساب (ويبدو) الأمر أكبر من مجرد بعض أثاث".
وحديث اليعقوبي لا يخلو من خطورة فهو من ناحية يتحدث عن رقابة قبلية للمسلس،ل ومن ناحية أخرى يتحدث عن غياب التنسيق داخل وزارة التربية بخصوص الموافقة على تصوير مسلسل "فلوجة" الذي يبدو أنه سيسيل المزيد من الحبر في قادم الأيام.