لا يفتأ رئيس الجمهورية قيس سعيد يذكّرنا في كل مناسبة أن عيد الثورة الحقيقي هو يوم السابع عشر من ديسمبر 2010 وأن يوم الرابع عشر من جانفي 2011 هو على نقيض ذلك تماما اذ هو حسب رايه " كان محاولة لإنقاذ النظام، ومن انخرط في هذه العملية هو جزء من المنظومة التي لاتزال قائمة الى حد اليوم وتعمل في جميع المجالات " (هكذا!!!).
ولعلّ تذكير الرئيس اليوم بهذا الأمر خلال الزيارة التي أدّاها وسط العاصمة، اين سينزل غدا خصومه للتظاهر ضدّه، محاولة منه لطمس مرجعيّة هذا التاريخ الذي سيظل محفورا في ذاكرة التونسيين. تاريخ دوّنته كتب التاريخ ومحرّكات البحث الالكترونية والموسوعات العالمية دون استثناء.
لا السيد الرئيس. عيد الثورة الحقيقي هو يوم 14 جانفي 2011. هو يوم أرّخ لهروب الدكتاتور بعدما اجتاحت جحافل الغاضبين من التونسيين المتهافتين من كل أرجاء البلاد شارع الثورة، شارع الزعيم الحبيب بورقيبة، باني تونس الحديثة. هو يوم "زغردت" فيه كل أم ثكلى فقدت ابنا في غياهب سجون النظام وانطلقت فيه ألسنة ظلّت لسنوات ملجومة مهلّلة بسقوط الطاغية. هو يوم لن يمّحي من ذاكرة كل من أطلق صيحة في عنان السماء فرحا وانتشاء بحلول عهد الحرية والانعتاق من الخوف والملاحقات.
لا السيد الرئيس. يوم 17 ديسمبر هو يوم اندلاع الشرارة التي ألهبت شعبا مسحوقا ومقموعا ودفعته للانتفاض ضد طاغية طوّع آلة القمع والاستبداد ضد شعبه. الرئيس الراحل بن علي كان يعلم أن نهايته وشيكة لكن لم يكن ليتوقّع أن يتم هزّ عرشه واقتلاع جذور حكمه في قلب شارع بورقيبة ومن أمام مقر وزارة لطالما طوّعها لمحاربة خصومه وهرسلتهم وقمعهم.
لا السيد الرئيس. التاريخ لا يكتب حسب الأهواء والأمزجة بل حسب الوقائع وتأثيرها على سير الأحداث. ما حدث يوم 14 جانفي هو الزلزال الذي قلب تونس رأسا على عقب. التاريخ سيذكر ذلك اليوم الذي سقط فيه حكم بن علي لتبدأ مرحلة جديدة ومفصلية في تاريخ تونس الحديث. ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن تكون عمليّة تغيير يوم تاريخي بجرة قلم أو بقرار رئاسي أو الغاء يوم عطلة رسميّة هي المحدد الأساسي للاعتراف بهذا اليوم التاريخي من عدمه.
نعم، تحتفل سيدي بوزيد منذ اندلاع الثورة ولسنوات دونا عن بقية ولايات الجمهورية بيوم 17 ديسمبر الذي تعتبره يوم عطلة رسمية، وهو في تقديرنا خطأ كبير ومؤشر خطير على وحدة الدولة حينها، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتغير تاريخ مرحلة فاصلة في مسار بلادنا التاريخي لمجرّد ترضية جهة او كسب ودّ فئة شعبية دون أخرى أو مواجهة خصوم سياسيين. والاّ ما الذي يمنع من اعتبار يوم 6 جوان 2008، تاريخ اندلاع انتفاضة الحوض المنجمي ضد بن علي,تاريخا أصليا وحقيقيا وشرعيا لاندلاع الثورة التونسية ؟ هذه الانتفاضة التي ظلّت أخبارها مقبورة بفعل آلة البطش والترهيب وتكميم الأفواه وشراء الذمم التي اعتمدها النظام السابق في وأد انتفاضة كادت تعصف به.
السيد الرئيس، التأريخ ليس بهوى الذّات ولا هو بالتفضّل بالمجاملات ولا بمنح التّرضيات. التأريخ للشعوب هو علم قائم الذات. تاريخ بلادنا هو كما تاريخ كل أمة. هو "خط متصل ، و قد يصعد الخط أو يهبط ، و قد يدور حول نفسه أو ينحني و لكنه لا ينقطع" على قول الكاتب الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل.