لا يمكن اعتبار زيارة رئيس الجمهورية قيس سعيد الى مقرّ مؤسسة سنيب لابراس- الصحافة، يوم أمس، بالحدث العادي. هو حدث استثنائي بكل المقاييس. نعم هو كذلك. اذ ليس من قبيل المبالغة القول إنه ربما يكون حدثا مفصليا في صيرورة هذه الصحيفة التي يعود تاريخ تأسيسها إلى ثلاثينات القرن الماضي على يد التونسي اليهودي هنري سماجة قبل أن تتم مصادرتها في الستينات من طرف الدولة التونسية بسبب هروب صاحبها الى فرنسا بعد اتهامه بتهريب العملة، بحسب أستاذ الصحافة والاعلام صلاح الدين الدريدي.
نعم، هو كذلك لأن استجابة الرئيس لنداء أبناء هذه المؤسسة التي تحتضر، كغيرها من مؤسسات الصحافة المكتوبة، لزيارتها والوقوف على مدى الدمار الذي طالها، وهي التي اقترن اسمها كما العديد من الصحف والمجلات المكتوبة بتاريخ الدولة الوطنية، تعتبر "شحنة من الأكسجين" التي من شأنها إعادة الحياة من جديد في هذه الصحيفة الرّمز.
ولم يكن من الصعب ملاحظة ما كان لهذه الزيارة "المفاجأَة" من وقع وأثر إيجابيين على نفسية أبناء دار الصحافة والحال أن كل الذين تعاقبوا على الحكم منذ الرابع عشر من جانفي ما فتئوا يمعنون في الإضرار بل والتنكيل بهذا الصرح الإعلامي الذي اختزل اسمه مهنَةً بأسرها. إذ عبّر كل العاملين بها عن امتنانهم وأملهم في أن يستجيب أعلى هرم السلطة إلى ندائهم بإنقاذ مؤسستهم من شبح الاندثار. وبفضل هذه الزيارة عادت الألوان لتوشّح العدد الجديد الصادر صباح اليوم بعد أن كانت الصحيفة تصدر لايام بالأبيض والأسود تعبيرا عن الحزن والغضب لما آلت اليه أوضاعها.
جبل من الجليد بين الرئيس والإعلام
هي زيارة استثنائية أيضا لأنها ربما ستؤسس لعلاقة جديدة بين الرئيس قيس سعيد ووسائل الإعلام التي "لفَظَها" بمجرّد وصوله إلى قصر قرطاج وفضّل أن يستبدل بها صفحة فايسبوكية والحال أنه بفضل وسائل الإعلام تمكّن سعيّد من الظهور وطرح أفكاره وتصوّراته أمام الجماهير التي انتخبته لاحقا عند ترشّحه إلى الانتخابات الرئاسية سنة 2019.
فالرئيس لم يأخذ بعين الاعتبار الحظوة الإعلامية التي لقيها حينها كأستاذ قانون دستوري، والتي مكّنته من حشد قاعدة شعبية ومن استمالة عدد لا بأس به من الذين يرنون الى غد افضل بسبب الدمار المؤسساتي والاقتصادي الذي لحق البلاد طيلة العشرية التي خلت. بل على العكس تماما اذ ما فتئ رئيس الجمهورية يكيل التهم الى الإعلام معتبر اياه جزءا من المنظومة الفاسدة. وهو ما حدا بالعديد من أنصاره إلى التهجم بشكل فاضح على قطاع الإعلام عبر وسائل التواصل الاجتماعي كما كان الحال في حكم الإسلاميين الذين أطلقوا سهامهم صوب الصحفيين معتبرين إياهم جزءا من المنظومة السابقة التي وجب استئصالها ودحرها.
لقد بلغ توتّر علاقة الرئيس بقطاع الإعلام مداه في السنة المنقضية وبداية هذه السنة مع تتالي الإيقافات الي طالت عددا من الإعلاميين لعلّ أبرزها المتعلّقة بالصحفي ومدير إذاعة موزاييك نور الدين بوطار الذي يقبع منذ شهر في السجن رغم تأكيد محاميه على خلوّ ملفه من تهم خطيرة على عكس ما تقوله السلطة والتي تتهمه بالضلوع في مؤامرة لقلب نظام الحكم. هذا دون أن ننسى ما تعرّض له الصحفي وصاحب موقع بيزنس نيوز نزار بهلول الذي كاد أن يذهب ضحية المرسوم 54 الذي لاقى صدى وممانعة غير مسبوقة من كل قوى المجتمع المدني والنخبة السياسية لما يمثله من ضرب لحرّية الرأي والتعبير.
ولعلّ هذا المرسوم الذي طال أذاه بعض السياسيين في أكثر من مناسبة، القشة التي قصمت ظهر البعير في علاقة الرئيس بالإعلام حيث أن ممثلي المهنة وهياكلها عبروا في أكثر من مناسبة عن استنكارهم لتطبيق هذا المرسوم الرئاسي الذي وصفوه بـ"سيّئ الذكر" ورفضهم لاعتماده كسيف يتم تسليطه على رقاب المعارضين متى عنّ للسلطة القائمة ذلك.
هذا فضلا عن بعض المضايقات والاتهامات التي طالت بعض رموز القطاع على غرار نقيب الصحفيين الذي تمت دعوته للمثول أمام القضاء في مسألة اعتبرتها نقابة الصحفيين محاولة لترهيب الإعلام وتركيعه.
قد تكون الزيارة الأخيرة التي أدّاها سعيّد إلى دار لابراس بمثابة استجابة الرئيس للرسالة التي تلقاها من الاعلام ومفادها أن لا سبيل إلى معاداة هذا القطاع الحيوي والمؤثّر والذي لا يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تنفي دوره في التأثير على الرأي العام وتوجيهه، في ظل الحرب الضروس التي يقودها ضد مافيات الفساد وعملية المحاسبة التي انطلق فيها ضد كل من أجرم في حق البلاد طيلة العشرية السابقة. قد يكون في ذلك تعديل للبوصلة وتوجيه كل سهامه إلى الأعداء الحقيقيين للوطن والتخلي عن سرديّة "الإعلام الخائن" الذي يسوّق لها أنصاره مؤخرا خصوصا في ظل تراكم الأزمات الاتصالية لرئاسة الجمهورية كمسألة طرد المهاجرين الأفارقة غير النظاميين التي اتهم فيها الرئيس الاعلام بصفة مباشرة وتهويلها.
مشاكل بالجملة!
وعلى ذلك، قد يذيب هذا التواصل المباشر وغير المسبوق بين الرئيس والصحفيّين منذ التحاقه بقصر قرطاج، الجبل الشاهق من الجليد بينه وبينهم خصوصا في ما يتعلّق بالمؤسسات الصحفيّة العمومية أو المصادرة كدار الصباح التي تعهّد شخصيا بالوقوف أمام التفريط فيها أو تركها تموت باعتبار رمزيتها التاريخية والوطنية وهو تعهّد زرع نوع من الأمل دون شك في نفوس ابنائها وابناء بقية المؤسسات الأخرى كإذاعة شمس أف أم وكاكتوس التي ربما يتم ضمّها جميعا للقطاع العمومي أو التفويت فيها لمستثمرين جدّيين ونزهاء.
هذا فضلا عن بقية المشاكل العالقة التي ترتبط أساسا بالوضعية المادية والاجتماعية للصحفيين خصوصا في مسألة تضمين تكفّل الدولة بمساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي بعنوان الأجور المدفوعة للأعوان المصرح بهم لدى مصالح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لأربع ثلاثيات منقضية بصفة متتالية في قانون المالية لسنة 2023، والذي لم يتم تفعيله الى حدود هذه اللحظة مما أدى الى حرمان العديد من صحفيي هذه المؤسسات من التمتع بحقهم في العلاج ضمن المنظومة العمومية كغيرهم في سائر المؤسسات الاقتصادية الأخرى.
لئن أدخلت زيارة الرئيس قيس سعيد نوعا من الارتياح لدى أبناء قطاع الاعلام عموما و أبناء دار لابراس خصوصا والذين أعلنوا إلغاء الوقفة الاحتجاجية التي كان من المزمع تنفيذها يوم الثلاثاء المقبل أمام رئاسة الحكومة كتحرك احتجاجي ضد إهمال مؤسستهم من طرف حكومة بودن، إلا أن التحديات التي يواجهها الإعلام في علاقة بمؤسسات الدولة تبقى كثيرة ومعقّدة. ولعلّ من أوكد الملفات الذي يجب حلحلته في هذا السياق هو مسألة النفاذ الى المعلومة خصوصا في ظل تعقيد الإجراءات الإدارية التي وضعها العديد من المسؤولين أمام نفاذ الصحفيين الى المعلومات بغض النظر عن مدى أهميّتها.