في حضرة الناشر المثقّف والمشبّع بالمعرفة والأدب والفكر شوقي العنيزي ليس لك من بد غير الإنصات بانتباه وتفحّص لما يقول من درر الكلام. نعم هو كذلك دون مبالغة. فالرجل يمرّ من الترجمة إلى الأدب مرورا بالفلسفة مرور السّهم من الرميّة حيث لا تعوزه الكلمات ولا المفردات في إبلاغ أفكاره المنسابة انسياب الماء في الجداول العذبة.
ولعلّ من تغيّب عن اللقاء الذي اثّثه هذا الشاعر والمثقّف بفضاء مسرح كورتينا بالقلعة الكبرى مساء اليوم الأحد 14 ماي 2023، قد حرُم من متعة الإنصات إلى كلمات يسوقها صاحب دار ميسكلياني للنشر بكل تمكّن وتفكّر وتدبّر…
مواضيع شتى أثارها حلمي الشيخاوي مدير اللقاء الفكري والأدبي ورئيس جمعية أحباء الكتب بسوسة، منظمة هذا اللقاء. وكان الشاعر شوقي العنيزي دائما في الموعد للإجابة عن تساؤلات ومباحث هامة في النشر والترجمة وغيرها.
بين الناشر والمحرّر
في ردّه عن سؤال حول ماهية الناشر، يرى العنيزي أنه مستثمر في الحقل الثقافي أساسا إذ هو يجمع بين عنصري الاستثمار والثقافة وهو الحقل الذي يعمل به. وهي مهنة تتقاطع مع مهن أخرى كالطباعة والتصميم والتوزيع وغيرها. والنشر مهنة مرتبطة بالأساس بمهنة التحرير "إذ لا يمكن الحديث عن النشر دون الحديث عن فعل التحرير". ومن هذا المنطلق يتساءل العنيزي عن ماهية "المحرر الذي يكون به الناشر ناشرا".في هذا السياق يعتبر صاحب دار ميسكلياني للنشر أن المحرر هو المتخصص في المجال الذي ينتمي إليه الكتاب وهو ما يجعل الناشر غير مطالب بأن يكون متخصصا في مجالات معرفية كثيرة غير أنه ملزم باستجلاب محررين مختصين بالضرورة.
ويرى الشاعر شوقي العنيزي أن مهنة النشر هي مهنة نبيلة تعنى بتغيير العقليات وإنتاج المعرفة وتغيير نماذج مجتمعية سائدة ومكرّسة. واستشهد المحاضر في هذا السياق مسار بناء الدولة التونسية الحديثة حيث لعب الناشرون آنذاك دورا مفصليا في خلق انموذج مجتمعي جديد يتماشى مع السياسة التي كانت الدولة تسعى الى تكريسها في ذلك الوقت. فمثلا في علاقة بمسألة الهوية التونسية لعبت معظم الفنون تقريبا دورها في تكريس هذه الهوية مثل المدرسة التونسية L'Ecole de Tunis في مجال الرسم بقيادة يحي وزبير التركي وعمار وصفية فرحات وعبد العزيز القرجي وجلال بن عبد الله وغيرهم وفي مجال القصة والشعر من خلال حركة الطليعة عبر رموزها الفنان والقصاص محمود التونسي والشاعر الطاهر الهمامي وعز الدين المدني وفي مجال النشر عبر دور نشر عريقة مثل دار الجنوب ودار سيراس وغيرهما. وعلى ذلك يرى العنيزي أنه من غير الممكن أن "نغيّر عقلية أو أن نكرس انموذجا مجتمعيا جديدا أو أن نٌسهم في التخفيف من الرؤى والتصورات الثابتة والبالية دون فعل نشر وتحرير ودون خط تحريري وتصوّر واضح". ويرى الناشر أن كل دور النشر العربية تقريبا اتخذت خطوطا تحريرية واضحة وكانت تلتزم بها التزاما شديدا.
من أجل تكريس مفاهيم الغيرية والتعدد
ويعتبر العنيزي أنه من غير الممكن الحديث عن طرح أو تصوّر جديد شقّاه "السلفي والحداثي دون الحديث عن حامل لذلك الفكر أو المشروع وهو الناشر".
وعن الخط التحريري الذي تتبناه أو تكرّسه دار ميسكلياني للنشر، يعتبر العنيزي أن مؤسسته "تكرّس ثقافة الاختلاف ومفاهيم الغيرية والتعدد إزاء ثقافة الفكر الواحد والنمط الواحد والصورة الواحدة". كما يرى صاحب دار النشر التي تتناول الرواية العربية والترجمة والشعر والسانيات والفكر الديني أن الرابط بين هذه التخصصات المختلفة والمشتتة في ظاهرها هو أن يكون الكتاب قادرا على أن يتجطى مفهوم الهوية المغلقة والمطابقة والانموذج المكرس والثابت. فالعنيزي يرفض أن نكون مجرّد طوابع بريدية متشابهة بل هو يؤمن أشدّ الإيمان بضرورة القبول بالآخر وبضرورة الخروج من ثقافة التقوقع التي يسعى البعض الى تكريسها في عالم متحرّك يشهد تغيّرات وتحوّلات سريعة وجذريّة.
هي مواضيع كثيرة تطرّق لها الناشر والشاعر شوقي العنيزي في هذا اللقاء الذي حضره ثلة من المفكرين وأبناء جمعية أحباء الكتب بسوسة والذين تفاعلوا ايّما تفاعل مع مداخلة العنيزي ليتحوّل اللّقاء في معظم ردهاته إلى تطارح فكري عميق وثريّ.