إعداد : تبر النعيمي
” كل فجر، و قبل أن أصعد إلى الشاحنة، ألقي نظرة على منزلنا و كأنني أودّعه الوداع الأخير!! ” تحدثني هدى و قد رحلت بعينيها بعيدا .. “منذ توفيت أختي و أبناء عمي و صديقاتي في الحادث اقترب مني الموت كثيرا، بل صار يلازمني ، أشعر به و أنا في الشاحنة و أفكر فيه حين أكون خارجها !! ” ..
هدى الخضراوي (23 سنة ) التقيتها في الذكرى الرابعة لحادث السبالة ( 27 أفريل 2019) الذي أودى بحياة 12 عاملا و عاملة في القطاع الفلاحي و معهم سائق الشاحنة، أمام مقر الولاية افترشنا الأرض ليس بعيدا عن أمها و أهلها الذين جاؤوا للاحتجاج بعد أن حرموا من مساعدات وجهت لغيرهم حسب قولهم .
” كنت معهم يومها، متراصين في الصندوق الخلفي للشاحنة على الطريق من دوارنا “البلاهدية” إلى أحواز مدينة سيدي بوزيد للعمل، فجرا كان السائق يسرع تفاديا للأمن، انفجر إطار الشاحنة و اصطدمت بأخرى محملة بالدجاج .. استرجعت وعيي و أنا على الاسفلت ملطخة بالدماء.. نقلوني إلى المستشفى حيث خضعت لعملية جراحية و بعد أسبوع و نصف أعلموني أن أختي منال التي كانت معي توفيت !! ”
رحلت منال الطفلة (13 سنة ) على الطريق بعد فترة من انقطاعها عن الدراسة لأنها لم تتمكن من تأمين لوازم الدراسة كما تقول هدى، و تضيف ” كانت تشتغل معنا أيام العطل و كنا نحلم بأن نبعث مشروعا مشتركا حين تنهي دراستها ، لم يتحقق حلمنا و رحلت.. تركتني أنا و أمي و أختي و أخي للعمل في الحقول و المزارع و لخطر الطريق .. حتى أننا اتفقنا بأن لا نصعد في الشاحنة نفسها كي لا نموت جميعا دفعة واحدة و فعلا تعرضت أختي لحادث منذ سنة و أصيبت بجروح ” !!
حادث السبالة عرى تماما واقع نقل العاملات
بعد أربع سنوات من حادث السبالة ماتزال هدى تعاني آثاره النفسية و الجسدية، و تهددها حوادث النقل مثل جميع العاملات الفلاحيات و قد عادت إلى العمل مرغمة .

صورة منيارة المجبري
حادث السبالة الذي عرّى تماما واقع العمل الهش في القطاع الفلاحي، حينها تعالت أصوات الغاضبين و المحتجين خاصة من منظمات المجتمع المدني ما سرّع بإصدار قانون بعد الحادث بحوالي شهر و نصف، القانون عدد 51 لسنة 2019 المؤرخ في 11 جوان 2019 و يتعلق بإحداث صنف “نقل العملة الفلاحيين ” و ينص على أن “نقل العملة الفلاحيين هو خدمة للنقل العمومي غير المنتظم للأشخاص مخصصة للعملة الفلاحيين سواء كانوا قارين أو موسميين أو طارئين يقوم بتأمينها شخص طبيعي أو معنوي و يقع إسداؤها في حدود ولاية أو مجموع ولايات . و تضبط تعريفتها بحساب المقعد و المسافة المقطوعة . و تضبط شروط الانتفاع بهذه الخدمة بأمر حكومي” .
و نص القانون في فصله الرابع على إصدار الأمر الحكومي في أجل لا يتجاوز ثلاثة أشهر من نشر القانون في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، و لكن لم يحصل ذلك و كان يجب الانتظار أكثر من سنة، و بعد ان تعالت الأصوات الغاضبة مرة أخرى يصدر الأمر الحكومي عدد 724 لسنة 2020 المؤرخ في 31 أوت 2020 و المتعلق بضبط شروط تعاطي نشاط العملة الفلاحيين و شروط الانتفاع بهذه الخدمة .
قانون و أمر حكومي لم يغيرا شيئا من واقع نقل العملة العشوائي و ظلت الحوادث تحصد الأرواح و تصيب الجرحى . و وفق بيانات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية الصادرة في أفريل 2023، فإنه و بعد إصدار القانون و بين سنتي 2020 و 2022 بلغ عدد حوادث نقل العملة في القطاع الفلاحي 25 حادثا في 16 ولاية، أسفرت عن سقوط 22 ضحية و جرح 207 عملة جلهم نساء . فيما بلغ عدد الحوادث بين سنتي 2015 و 2022 حوالي 57 حادثا أسفرت عن سقوط 52 ضحية و جرح 715 من العملة جلهم نساء.
و يكشف هذا التحقيق أن الدولة تراخت في تطبيق قانون “نقل العملة الفلاحيين ” كما أن الآليات التي وضعت لتطبيقه بمقتضى الأمر الحكومي جاءت مسقطة و لا تأخذ بعين الاعتبار الجوانب الاجتماعية و الاقتصادية لواقع قطاع هش تخلت الدولة منذ عقود عن تنظيمه و مراقبته، و ضاعت بالتالي حقوق أضعف حلقاته و هن العاملات ضحايا شاحنات الموت و الاتجار بالاشخاص !!
حوادث نقل العاملات في القطاع الفلاحي
عدد الجرحى والوفيات بين 2015 و 2023
توزيع الحوادث حسب الولايات
وحسب الاستقصاء حول متابعة الموسم الفلاحي 2017/ 2018 للإدارة العامة للدراسات و التنمية الفلاحية ( و هو آخر استقصاء/ تعداد وفق وزارة الفلاحة ) و الذي تحصل عليه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية بمقتضى مطلب نفاذ للمعلومة، فإن مجموع اليد العاملة الفلاحية قدرت بمنها 521306 يد عاملة نسائية موزعة بين أغلبية معينة و أقلية أجيرة مثلما يبينه الجدول التالي ..
طبيعة اليد العاملة النسائية في القطاع الفلاحي موسم 2017/2018
ورغم اعتماد الفلاحة على العاملات فإن نسبة ملكية الرجال للأراضي تقدر ب92 بالمائة، ملكية ذكورية تقابلها تبعية يد عاملة نسائية، و هذا ما اثبتته الدراسات و من بينها “عاملات يسقين الأرض بعرقهن و دمائهن من أجل أن نأكل نحن ” الصادرة عن الاتحاد العام التونسي للشغل في اكتوبر 2020 و ” المرأة العاملة في القطاع الفلاحي و سياسات تابيد الهشاشة : أي سبيل للإنقاذ و رد الاعتبار ؟ ” الصادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية في افريل 2023.
وما لاحظناه على أرض الواقع سواء في المزارع و الحقول، أو على الطرقات و المسالك الفلاحية أن الشاحنات تنقل العاملات بطريقة غير آمنة و لاإنسانية للعمل.
حكايات تتشابه على مرأى و مسمع المجتمع !!
مشاهد ألفنا رؤيتها عبر البلاد لعاملات تتشابه حكاياتهن مع شاحنات الموت و اللاتي التقت بهن معدة التحقيق حنان السبري (الشرفة/السبيخة / القيروان ) و ناجية الغزواني ( مدينةجندوبة ) و صليحة الطيب ( فرجان/ المزونة / سيدي بوزيد ). ينقلهن مع رفيقاتهن سائق على شاحنته إلى الحقول و هو الذي يؤمن لهن العمل كما أنه يضمن للفلاح اليد العاملة ليتحول إلى الوسيط المتحكم في سلسلة الانتاج و قد توسعت مهامه فهو الذي يسلمه الفلاح ثمن العمل في أرضه، و هو الذي يعطي العاملات أجورهن بعد أن يقتطع ثمن النقل الذي يرتضيه حتى أن جل العاملات اللاتي تحدثت إليهن لا يعرفن صاحب الأرض و لم يلتقينه أبدا، و يكتفين بقبض أجورهن عن أسبوع عمل من الناقل الوسيط ، و تختلف أجرة اليوم الواحد حسب كل واحدة منهن من 10 دنانير إلى 13 دينارا أو 16 دينارا فيما لا يعلمن تحديدا كم يقبض الوسيط.

صورة جابر كرعاني
في مدينة الرقاب / سيدي بوزيد حيث آلاف العاملات في القطاع الفلاحي التقيت أحمد (اسم مستعار) وسيط بين العاملات و الفلاح منذ سنة 2016 ، سألته إن كان يعلم بأن ما يقوم به غير قانوني أجابني “هذا غير ممنوع” ثم استدرك ” قد يكون ممنوعا لأن الشاحنة ليست مؤمنة لنقل 20 أو 30 أو 15 إمرأة فهي ليست معدة لهذا الغرض، لكن الفلاح مجبر على التعامل معي حتى أجلب له العاملات إلى أرضه، فالمناطق الفلاحية تفتقر إلى المسالك المعبدة ما يصعب وصول الحافلات أو وسائل نقل أخرى إليها .. لذلك قد يكون عملي ممنوعا و ليس ممنوعا في آن “!!
و في سؤالنا عن تحوله إلى متحكم في سلسلة الانتاج ؟ يتردد في الإجابة “يمكن الجزم بذلك .. هي خبزة يأكلها الجميع ” و يضيف ” أرهقني العمل سائقا في شركة أجوب كل مناطق الجمهورية لذلك اشتريت شاحنة من نوع ايسيزي و صرت أشتغل ناقلا للعاملات ، أحمل بين 10 و 20 إمراة أنقلهن فجرا إلى الحقول و أعيدهن إلى ريفهن حين ينتهين من العمل و بين هذين الموعدين أشتغل ناقل بضائع “.
” أنا أنقل النساء لمسافة 40 كلم ذهابا و ايابا و اقبض من الفلاح مبلغ 17 دينارا عن المرأة الواحدة في اليوم،أعطيها 13 دينارا و أقبض 4 دنانير أجرة نقلها ” أسأله “لماذا لا يشتغل الرجال في الحقول؟ ” يجيبني ” الرجل يرفض العمل بأجرة 13 دينارا أو 15 دينارا عن اليوم الواحد هو لا يرضى بأجرة لا تقل عن 25 دينارا أما المرأة فتقبل العمل حتى بـ9 و 10 دنانير لأنها مرغمة لالتزاماتها العائلية “.
و عن شعوره حين يحمل نساء متراصات في الصندوق الخلفي لشاحنة معدة لحمل الحيوانات وأغراض أخرى ” أنا أعرف أنهن بشر لكن ظروفي هي التي تجبرني على العمل بهذه الطريقة ” يجيب أحمد .
نواصل الحديث ” هل تعلم أن هناك قانونا ينظم عملية نقل العملة في القطاع الفلاحي ؟ “يجيبني ” أسمع عنه منذ ما يقرب الأربع سنين و لكنني لا أستطيع الالتزام به فشروطه مجحفة، لا يمكنني دفع تأمين عن الشاحنة يناهز ألف و خمسمائة دينار ، و حتى إن تحصلت على رخصة نقل ريفي فستقتصر حمولتي على ثمانية أو عشرة أشخاص في حين أنني أنقل عشرين إمرأة أوزعهن على فلاح أو أكثر “.
آلاف النساء يتنقلن يوميا إلى حقول ولاية سيدي بوزيد عبر شاحنات الموت، و بسؤال معدة التحقيق للوالي عبد الحليم حمدي عن مدى مكافحة هذه الظاهرة بين أن المصالح المختصة تتصدى لكل محاولات نقل العملة الفلاحيين بطريقة غير قانونية، لكنه يقر بأن الوسطاء ينقلون العاملات عبرمسالك فلاحية بعيدة عن الدوريات الأمنية، و يؤكد أن الحل لا يمكن أن يكون زجريا فقط بل يجب معالجة قضية نقل العاملات في عمقها الاجتماعي إذ و حين لا تصل العاملة إلى الحقل لن تتمكن من توفير قوت أطفالها !!
تغوّل الوسيط و تضاعفت الانتهاكات !!
تغول الوسيط الذي يؤمن للفلاح يدا عاملة لخدمة ارضه، و بينهما الحلقة الأضعف ضحايا الانتهاكات من العاملات ، ما دفع بالاتحاد العام التونسي للشغل إلى المبادرة بوضع بروتوكول اتفاق حول نقل العملة في القطاع الفلاحي في سنة 2016 أمضاه مع وزارة المرأة و الأسرة و الطفولة، و الاتحاد التونسي للفلاحة و الصيد البحري و الاتحاد التونسي للصناعة و التجارة و الصناعات التقليدية . و اتفق هؤلاء الأطراف الموقعون على الإعلان عن مباشرة إعداد كراس شروط ينظم نقل العملة و العاملات في القطاع الفلاحي، و إحداث لجنة تعهد إليها مهمة إعداد كراس الشروط و تلتزم بتقديم أشغالها في أجل أقصاه شهر من تاريخ إمضاء البروتوكول في 14 أكتوبر 2016 .
” بروتوكول كانت غايته وضع إطار قانوني يمكّن عملة القطاع الفلاحي من التنقل بشكل آمن يحفظ الأرواح، لكنه ظل حبرا على ورق و تفاقمت معظلة نقل العاملات في ظل غياب إطار تشريعي واضح لتنظيمه ” يقول كاتب عام الجامعة العامة للفلاحة عمار الزين الذي يضيف “رغم إمضاء البروتوكول و إصدار قانون نقل العملة الفلاحيين، إلا أنه و على أرض الواقع لا يتم تطبيق أي منها لأن الفلاحين أصحاب الأراضي لا يتحملون المسؤولية و تركوا النقل بأيدي الوسطاء و عليه يصعب محاسبة أي طرف “.
و يؤكد عمار الزين على ضرورة توضيح العلاقة الشغلية بين المتدخلين في الانتاج الفلاحي بوضع إطار تشريعي شامل لقطاع الفلاحة يضمن كرامة العاملات و يحفظ حقوقهن و ذلك بتفعيل الاتفاقية الإطارية المشتركة في قطاع الفلاحة الصادرة في سنة 2015 إلى اتفاقيات مشتركة حسب انواع الانشطة الفلاحية ( الزراعات الكبرى، الخضر، المشاتل ، الأشجار المثمرة ) حينها يمكن تحديد جدول الأجور و الحقوق و الواجبات بما في ذلك حل معظلة النقل و الضمان الاجتماعي و التغطية الصحية و الأجر القانوني .
” أما اليوم فتتعرض العاملات إلى الاستعباد في سوق الوساطة ” يتأسف عمار الزين لهذا الواقع و يتساءل عن مدى إمكانية تطبيق القانون عدد 51 لسنة 2019 مؤكدا على ضرورة الدعم القانوني و المادي لكل من يرغب في بعث مشروع نقل العملة الفلاحيين .
و برهنت ورقة سياسية أنجزها مشروع حلول بالشراكة مع جمعية أصوات نساء تحت عنوان ” نقل العاملات الفلاحيات : نحو الهيكلة و إرساء الحقوق ” في مارس 2023 (https://houloul.org/ar/2023/03/30/ /) على أنه يصعب تطبيق الأمر الحكومي عدد724 لسنة 2020 المتعلق بضبط شروط تعاطي نشاط نقل العملة الفلاحيين و شروط الانتفاع بهذه الخدمة بصيغته الحالية، فمثلا ينص الفصل 3 على انه “يشترط للانتفاع بخدمة نقل العملة الفلاحيين ان يتحصل العامل الفلاحي على بطاقة يسندها الوالي بالتنسيق مع المصالح المختصة للوزارة المكلفة بالفلاحة و الصيد البحري و الموارد المائية و يضبط انموذج هذه البطاقة بمقرر من الوزير المكلف بالنقل “.
و هذا الفصل لا يحدد بالضبط الدور الذي يجب ان تلعبه الوزارة المكلفة بالفلاحة و التي يفترض أن تمتلك أكبر قاعدة بيانات عن العمل الفلاحي و افضل توزيع جغرافي عبر مؤسساتها (المندوبيات الجهوية للتنمية الفلاحية و خلايا الارشاد الفلاحي .. ) و التي تمثل خدمة القرب بالنسبة إلى العاملات الفلاحيات .
كما ينص هذا الفصل 3 على انه “يجب على كل راغب في الحصول على بطاقة للانتفاع بخدمة نقل العملة الفلاحيين تقديم مطلب باسم السيد الوالي يكون مرفقا بشهادة من الفلاح او المؤسسة الفلاحية تفيد توظيف المعني بالأمر للعمل بصفة مؤقتة أو دائمة ” و هذا البديل غير قابل للتطبيق لأن معظم العاملين و العاملات يعملن بشكل غير رسمي .
و تشير الورقة أيضا إلى ان ” الشروط المنصوص عليها بالفصل 16 من الامر الحكومي المتعلقة بالعربة التي يمكنها الحصول على ترخيص غير واقعية فعلى سبيل المثال فإن معيارالأجهزة التي تقطع التيار الكهربائي لجميع اجزاء السيارة غائب عن جميع السيارات المتجولة في تونس تقريبا. و حاليا لا توجد سيارات بالسوق التونسية يمكنها تلبية جميع المعايير المدرجة بالأمر الحكومي و هذا ما يدفع إلى استيراد سيارات جديدة معدة حصريا لنقل العملة الفلاحيين و هي عملية مكلفة و معقدة بالنسبة إلى نشاط فلاحي غير مربح بالقدر الكافي .
و يقول ياسر السويلمي مدير مشروع “حلول” إن دولة جنوب إفريقيا كانت تعاني من مخاطر النقل العشوائي للعملة الفلاحينن لذلك تم فرض إدخال تحويرات على الشاحنات حتى تصبح آمنة و صالحة لنقل البشر، و وقع تقنين هذه المبادرة و ردع المخالفين حتى أن العقوبات تصل إلى سلب الحرية، و يقترح ياسر أن تحتذي تونس بهذه التجربة الناجحة لتشابه النمط الفلاحي في البلدين .
و قد حاولت الحصول على معطيات بشأن تراخيص نقل العملة الفلاحيين المسندة وفق الامر الحكومي المتعلق بضبط شروط تعاطي نشاط نقل العملة الفلاحيين و شروط الانتفاع بهذه الخدمة الصادر في أوت 2020 من وزارة النقل فلم أتمكن، ما جعلني أتصل بجميع الولايات و تمكنت من الحصول على بيانات من 16 ولاية تخص مطالب التراخيص و عدد التراخيص المسندة منذ إصدار الأمر الحكومي في 31 أوت 2020 و إلى حدود شهر افريل 2023 .
مطالب تراخيص نقل العملة في القطاع الفلاحي وعدد التراخيص المسندة حسب الولايات
خلال حوالي 3 سنوات تم إسناد 17 ترخيص نقل العملة الفلاحيين في ثلاث ولايات هي بنزرت و جندوبة و باجة.
و جل هذه التراخيص هي استثنائية و موسمية أسندتها اللجان الاستشارية الجهوية لنقل العملة الفلاحيين التي يرأسها الولاة وفق الفصل 22 من الأمر الحكومي الذي ينص على أنه ” مع مراعاة الاحكام الواردة بهذا الامر الحكومي يخول للأشخاص المتحصلين على تراخيص النقل العمومي غير المنتظم تعاطي نشاط نقل العملة الفلاحيين بنفس العربات المستغلة في النشاط الأصلي شرط الحصول على موافقة كتابية من الوالي المختص ترابيا و لمدة محدودة و ذلك بعد تقديم ما يفيد الاتفاق مع الفلاح أو المؤسسة الفلاحية لنقل العملة الراجعين لها بالنظر ” أي أن التراخيص المسندة هي استثنائية و موسمية للمتحصلين على تراخيص النقل العمومي غير المنتظم .
في حين رفضت لجان في ولايات أخرى إسناد التراخيص نظرا لعدم توفر البطاقة التي تعد شرطا أساسيا للانتفاع بالترخيص حسب ما ينص عليه الفصل 3 من الأمر الحكومي و حسب وزارة النقل فإنه تم إعداد مقرر بطاقة عامل فلاحي خاصة بالنقل على وسائل نقل العملة الفلاحيين و تم إرسال الأنموذج إلى وزارة الداخلية لإتمام إجراءات التقييس بالتنسيق مع مصالح رئاسة الحكومة . و لم تصل إلى حد كتابة هذا التحقيق إلى الولايات .
حاول حماية العاملات .. لكن الواقع جرفه !!
عامر العمري (فلاح و رجل أعمال ) من الذين تحصلوا على ترخيص نقل العملة الفلاحيين في ولاية سيدي بوزيد (تحديدا في معتمدية الرقاب ) عبر حافلتين متوسطتي الحجم (30 مقعدا لكل حافلا ) لكن مشروعه لم ينجح و عن ذلك يقول ” في فترة الكورونا كنت أرى العاملات متراصات فوق الشاحنات و معرضات لخطر العدوى ، لذلك رغبت في نقل ما أمكنني منهن بطريقة لائقة و آمنة . أنا أملك مدرسة خاصة و في الفترة التي توقفت فيها الدراسة بسبب الوباء تقدمت بترخيص لاستغلال حافلتين كانتا مخصصتين للتلاميذ لنقل العاملات و فعلا تحصلت على ترخيص لكنني صدمت بواقع مرير إذ رفضت العاملات خدماتي، فأنا و إن وفرت النقل لم أؤمن لهن العمل الذي يحتكره الوسيط ” و يضيف عامر ” الوسيط يوفر النقل و العمل و يؤمن للعاملات حاجياتهن في الأرياف حيث تجمعه بهن علاقات قرابة و جوار و يعتمدن عليه في حياتهن اليومية و إن تخلى عليهن قد يخسرن الكثير !!”
و عامر فلاح أيضا إذ يملك حقل زيتون و يضطر إلى تشغيل العاملات خاصة في موسم الجني ، لذلك يعتمد على الوسيط لجلب حوالي 20 عاملة و يدفع له أجرة 17 دينارا عن كل عاملة يقبض هو 6 دنانير و يدفع للعاملة 11 دينارا عن كل يوم، و يضيف عامر متأسفا ” لقد حاولت أن أحدث تغييرا و لو بسيطا لكن الواقع كان أقوى و جرفني معه ” .
و مثل عامر فلاحون كثيرون يضمنون خدمة أراضيهم بهذه الطريقة مجبرين أو اختيارا، و ردا على سؤال من معدة التحقيق حول دور الوزارة في مكافحة ظاهرة النقل العشوائي للعاملات الفلاحيات و ما يتعرضن له من عنف جسدي و معنوي و اقتصادي ؟ دعت وزيرة الاسرة و المرأة و الطفولة و كبار السن امال بلحاج موسى اتحاد الفلاحين والفلاحين المنخرطين فيه إلى تحمل المسؤولية في توفير الأجر الذي يليق بعملة الفلاحة و ضمان حقوقهم الاجتماعية و الاقتصادية .
في حين ترى مديرة وحدة المرأة الفلاحة بالاتحاد التونسي للفلاحة و الصيد البحري لمياء قم الرجايبي أن القطاع الفلاحي يعاني إشكاليات عديدة منها الجفاف و غلاء وسائل الانتاج و كل هذا يتكبده الفلاح، لذلك يجب النهوض بالقطاع و الترفيع في دخل الفلاح لضمان دخل جيد للمرأة العاملة . و تقول الرجايبي إن الفلاحين لا يفرقون بين الرجل و المرأة على مستوى الأجرة التي تتراوح بين 20 و 25 دينار عن اليوم الواحد. و حين واجهتها أنه استنادا إلى الدراسات الميدانية و لقائي مع العاملات تبين أنهن يقبضن بين 10 و 14 دينارا استدركت قائلة إن الفلاح لا يتعامل مع المرأة مباشرة فهي ترفض ذلك، فإن اشتغلت في أرضه بشكل موسمي دون إذن الوسيط لن يشغلها هذا الأخير مرة أخرى . و تعترف أنه يتم نقل العاملات لمسافات طويلة تصل إلى 100 كلم من ولاية إلى اخرى في وسائل نقل غير آمنة و غير لائقة نافية أن يكون دور الفلاح تأمين النقل .
و تضيف ان “اتحاد الفلاحين” كان دائما قوة اقتراح و ضغط و ساهم عبر اللجان في إعداد قانون نقل العملة الفلاحيين ، و ترجع صعوبة تفعيله إلى عدم وضع إجراءات مرافقة و منها تغيير صبغة الناقل المشغل من القطاع غير المنظم إلى القطاع المنظم حتى يصبح نشاطه قانونيا و ذلك بعد تكوينه حتى يدخل في النشاط الاقتصادي عبربعث مشروع نقل العاملات باقتناء عربة بإجراءات ميسرة ( قرض تمويل/ امتيازات جبائية / دعم التأمين ) إذ لا يمكن الحديث عن تطبيق القانون إن لم يتم تكوين الوسيط و تأهيله و إدماجه في دورة الانتاج بشكل قانوني .
و عن ظاهرة الحوادث التي تخلف قتلى و مصابين خاصة في صفوف العاملات بينت لمياء قم الرجايبي أن الاتحاد يدرك هذا الواقع جيدا و قام بدراسات بمساعدة خبراء في المجال، بينت حجم التأثيرات النفسية و الاجتماعية للحوادث و وصفت عدم وجود تأمين على نقلهن بالكارثة الكبرى .
و لتجاوز هده المعظلة اقترح اتحاد الفلاحين إنشاء شركة تعاونية مركزية تعنى بلوجستيك النقل و التغطية الاجتماعية و كل فلاح يرغب في نقل اليد العاملة لخدمة أرضه يجد ضالته في الشركة و ” نضمن بالتالي للعاملة الاجر اللائق و الحماية و التامين و التكوين و التأطير ” تضيف .
تجاوزات تصل حد جرائم الاتجار بالأشخاص !!
و تستمر عملية نقل العاملات بشكل عشوائي في ظل تجاهل الناقلين الوسطاء للقوانين، هؤلاء الذين ينقلون الأطفال على متن شاحناتهم ضاربين عرض الحائط بترسانة التشريعات و حتى المواثيق الدولية التي أمضتها تونس في مجال حقوق الطفل . ففي حادث السبالة توفيت منال و اطفال آخرون و نجت سلمى (إسم مستعار ) التي كانت تبلغ 12 سنة في 2019 ، و اليوم بلغت السادسة عشر و تعاني مخلفات الحادث الذي تسبب في كسور على مستوى يديها و رجلها و رغم ذلك عادت إلى العمل في الفلاحة حتى تؤمن كلفة علاجها فهي لا تتمتع بالتغطية الاجتماعية و التأمين الصحي، و في مثل عمرها كان عمر نورا (اسم مستعار ) زمن الحادث و إن نجت منه فإنها ظلت تعاني آثاره النفسية و الصحية و قد اضطرت إلى العودة للعمل في الظروف نفسها تقريبا .
“إنها جريمة اتجار بالأشخاص كاملة الأركان” كما يصفها القاضي طه الشابي المختص في مكافحة الاتجار بالأشخاص، إذ يؤكد أنه بمجرد نقل الأطفال القسر و استغلالهم في العمل فإنهم يصبحون ضحايا و تكون العقوبة مشددة إذ تصل إلى 15 سنة سجنا و إذا ترتب عن الاستغلال وفاة احد الضحايا أو الانتحار تصل العقوبة السجن مدى الحياة .
و تشدد العقوبة أيضا حين تتعلق الجريمة باستغلال النساء وفق القانون عدد 61 لسنة 2016 المؤرخ في 3 أوت 2016 و المتعلق بمنع الاتجار بالاشخاص و مكافحته ، و يصف الشابي هذه الجريمة المركبة بأنها انتقال من ملكية الشخص أي العبودية بشكلها التقليدي إلى استغلال الشخص بطريقة التمويه عن السلط العمومية حتى يتمكن المتاجرون أو الجناة من استغلاله اقتصاديا أو جنسيا .
و بالنسبة إلى نقل العاملات الفلاحيات يفسر الشابي قائلا ” بالنسبة إلى شخص ينقل نساء للعمل في المزارع فإنه يجب التثبت في الوقائع إن كانت تترتب عليها جريمة ام لا ” و يضيف أن جريمة الاتجار بالأشخاص مركبة و أركانها فعل و وسيلة و غاية و هي مترابطة تسلط على الشخص و يصبح ضحية .
فإذا اقتصر دور سائق الشاحنة الذي يتوسط بين العاملات و صاحب الأرض اللاتي يشتغلن بها، على نقلهن فقط و يتلقى أجرته بطريقة عادية فيما يتفقن مع صاحب العمل على الأجرة المعمول بها في تلك المنطقة لا يمكن في هذه الحال الحديث عن جريمة الاتجار بالأشخاص .
“إذن متى تصبح جريمة اتجار بالأشخاص؟” أستوضح القاضي الذي يفسر ” حين ينقلهن عن طريق الشاحنة ثم يتفق عن الثمن مع صاحب الأرض و لايترك لهن أي علاقة شغلية مباشرة معه ليصبح هو الوسيط بين الطرفين . إذ هو الذي يسلمهن أجرتهن بعد أن يقبض من صاحب الأرض، و بالتالي يتم تجنيدهن و ربما هناك استغلال حالة ضعف أو إكراه معنوي أو مادي و تكون الغاية هي الاستغلال الاقتصادي . أما إذا كان الضحايا أطفال قسر فلا نتحدث عن الإرادة فبمجرد النقل و الوسيلة تتكون جريمة الاتجار بالاشخاص ” .
و يضيف القاضي طه الشابي أن الوسيط يصبح فاعلا أصليا في الجريمة كما ينص الفصل 2 من القانون إذ يتم الاستغلال لفائدته أو وضعهن على ذمة الغير . “فمثلا تكون أجرة عمل يوم 25 دينارا لفترة 8 ساعات فيما يأخذ هذا الوسيط من صاحب الأرض مبلغا أقل ، أو يأخذ 25 دينارا و يقبض هو جزءا كبيرا و يسلم المرأة الباقي و الغاية هنا هي الاستغلال و هذا يشكل جريمة اتجار بالأشخاص ضد النساء و الاطفال “.و يركزالقانون عدد 61 لسنة 2016 على الفئة الأكثر هشاشة و التي يمكن استغلالها و هي النساء و الأطفال .
و بالنسبة إلى صاحب الارض إذا كشفت الأبحاث أنه يعطي الوسيط الأجرة المعتادة (25 دينارا) في هذه الحال لا يمكن معاقبته على ارتكاب جريمة الاتجار بالأشخاص، أما إذا برهنت الوقائع أنه يستغل مع الوسيط العاملات بدفع أجرة أقل و تشغيل ساعات أكثر و هو على علم بما يفعل الوسيط يصبح شريكا في الجريمة و يصبح فاعلا أصليا إذا تولى التنسيق مع الوسيط .
و لأن القانون يهدف أيضا إلى مكافحة الاتجار بالاشخاص فإنه ينص على أن كل شخص يعلم بالجريمة و يتعمد عدم إشعار مركز الأمن أو الحرس أو النيابة العمومية أو الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص فتصل عقوبته إلى عام سجنا و بالتالي وجب الإشعار .
و أكدت رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص روضة العبيدي أن الهيئة لم تتلق أي إشعار بشأن الاتجار بالأشخاص في القطاع الفلاحي، و لم تنظر في اي حالة تخص استغلال النساء و الاطفال من قبل الوسطاء او الفلاحين !!
تراخت الدولة و تحرك المجتمع المدني ..
لكن الجميع يعلم و يرى الانتهاكات و الجرائم في حق العاملات في القطاع الفلاحي أمام صمت أجهزة الدولة، لذلك اقترحت منظمات المجتمع المدني حلولا لحل معضلة نقل العاملات، فالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية اقترح إدراج و تشريك الوسطاء ممن يرغبون في ذلك في حل مشكلة النقل عبر تكوين شركة تعاونية ذات صبغة قانونية مهمتها نقل العاملات و توفير اليد العاملة للفلاحين بطريقة لائقة و بمنطق الخدماتي بعيدا عن الاستغلال و مخالفة القوانين .
في حين ترى جمعية “أصوات نساء” مع مشروع “حلول” أنه يجب على الدولة أن تتدخل عبر مؤسساتها المعنية لتعالج قضية نقل العاملات الفلاحيات و خاصة عبر المندوبيات الجهوية (24 مندوبية ) و خلايا الإرشاد الفلاحي (194 خلية ) التي تملك بيانات عن الواقع الفلاحي في كل جهة، و يمكنها إنشاء مكاتب تشغيل حيث يمكن للنساء الراغبات في الشغل التسجيل للحصول عليه.
و أوصت وزارة النقل بصياغة إطار تشريعي استثنائي للنقل الفلاحي يسمح بإجراء تعديلات على العربات المخصصة للنقل الفلاحي ، و رئاسة الحكومة بتعديل الأمر الحكومي عدد 724 لسنة 2020 ، و وزارة التجهيز و الإسكان بتحسين البنية التحتية للطرق الريفية ، و وزارة المالية بتقديم حوافز ضريبية لتسهيل شراء أو تعديل العربات ، و وزارة الداخلية بتشديد الرقابة على النقل الفلاحي العشوائي و تطبيق إجراءات الردع ..
و في ظل واقع تراخي الدولة عن حماية العاملات تحركت منظمات المجتمع المدني عبر حملات المناصرة (“سلمى تعيش” و “فالحة “.. ) في محاولة لدعمهن و حمايتهن في ظل واقع تشغيل هش تبلغ أقصى درجات هشاشته على شاحنات الموت .
و قد انطلق الاتحاد العام التونسي للشغل في بعث نقابات للعاملات في القطاع الفلاحي للتنظم و المطالبة بحقوقهن، و بلغت هذه النقابات خمس بولايات باجة و جندوبة و سليانة و سيدي بوزيد و صفاقس ..
نقابات العاملات في القطاع الفلاحي
نقابات لم تنجح بعد في استقطاب العاملات بقدر يعكس عددهن الذي تجاوز نصف مليون، إذ أن نسبة المنخرطات في النقابات لم تتجاوز 0.16 بالمائة و هذا يعكس عدم استقلاليتهن في اتخاذ القرار و عجزهن عن الخروج من دائرة الاستغلال و الانتهاك .. و الموت في صمت !!
ملاحظة : أنجز هذا التحقيق بدعم من مركز تطوير الإعلام