“برومثيوس” شخصية أسطورية ملهمة انتصرت للإنسان وقبلت العقاب مبتسمة، دفعت قلبها قربانا له ووهبته للنسر يقتات منه ويرتوي من دمه وكلما انتهى يينع قلبه من جديد..
شعلة النار التي سرقها فألهبت الغضب في “زيوس” أضاءت ركح مهرجان الحمامات الدولي في عرض الافتتاح الذي يحمل عنوان “برومثيوس- الكنغر الأزرق” وهو عمل مسرحي جديد للمخرج سيمون مانينو.
والعمل عبارة عن تراجيديا فلسفية، ومانيفستو جمالي ودراما سياسية، شكل ملامحها المخرج “سيمون مانينو” ذو الأصول الصقلية استنادا إلى نص خطه الكاتب “لورانزو مارسيلي” بالتعاون مع فنانين من تونس وإيطاليا في إطار ورشة “نوسترا سينيورا ومجموعة البحر الأبيض المتوسط.
على إيقاع صوت يحاكي صخب المياه في عمق البحار تتبدى صورة إله أجبر على التجول عبر البحار إلى الأبد في إحالة غير مباشرة لظاهرة الهجرة التي أفاضت سيلا من الدم والدموع في شقها غير النظامي.
غطرسة الإنسان وتدميره لموطنه، علاقة الإنسان بمن حوله، الأزمات البيئية والإنسانية والجيوسياسية في البحر الأبيض المتوسط، وغيرها من المواضيع تناثرت بسلاسة على الركح رغم الركون إلى لغة إيطالية أدبية وفلسفية.
وانطلاقا من تفسير جديد للأسطورة يتطرق العمل المسرحي إلى أزمة المناخ وتفاقم أزمة حقوق الإنسان من خلال إعادة النظر في العلاقة بين الإنسان والأرض بكل ما تحويه من كائنات أخرى.
من القمة إلى البحر يهوي “برومثيوس” الذي يؤدي دوره جمال المداني عقابا له على قلب عنصر النار إلى نقيضه وفي سقوطه المدوي تتجلى قضايا راهنة وتتهافت شخصيات أخرى أداها ممثلون ملتزمون بقضايا الإنسانية..
ممثلون تونسيون وإيطاليون يكسرون حاجز اللغة
الممثلون في “برومثيوس- الكنغر الأزرق” هم التونسيون جمال المداني وأيمن مبروك ومريم الصياح والإيطاليون جورجيو كوبوني وباولو مانينا وكيارا موسكاتو، ممثلون تماهوا مع شخصياتهم وانسجموا في ما بينهم حتى تلاشت حواجز اللغة.
قدرة على تطويع الجسد وتعابير الوجه أبداها كل الممثلين دون استثناء وهم يعيدون صياغة أسطورة “برومثيوس” صاحب القصة الأكثر وقعا في علاقة بتعامل الإنسان مع الطبيعة والتكنولوجيا.
تحاليل ذاتية جديدة لمجتمعات متغيرة أوجدها الممثلون على الركح وهم يتنقلون بين المواقف الدرامية والانفعالات ليسائلوا الطبيعة البشرية وتفكك شيفرات التوحش والعنف التي سادت الراهن في تمظهرات مختلفة.
أداء لافت للممثلين التونسيين جمال المداني وأيمن مبروك ومريم الصياح تعالت فيه أصواتهم بإيطالية مغرية بالاستماع إليها وتحركت أجسادهم في فضاء ضيق لكنك تخاله رحبا على إيقاع خطواتهم.
أيمن مبروك الممثل التونسي الذي صنع نجاحات في إيطاليا تسربت الحروف الإيطالية من بين شفاهه حرة طليقة غاضبة صاخبة تحاكي هدير المياه تماما كما الحروف العربية.
تنقل سلس بين العربية والإيطالية بنفس الطاقة ونفس الحماسة والعطاء جدا وروحا، الأمر نفسه يظهر في أداء جمال المداني الذي لم يكن يتقن اللغة الإيطالية لكنه تعلمها سماعا وأجادها.
وإلى جانب اللغتين العربية والإيطالية تحدث المداني في المسرحية بالعامية التونسية في نص وضع فيه أصابعه على مكامن العلل في تونس ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا كما أنه عاد بالزمن إلى الوراء حيث كانت تونس تستقبل المهاجرين من إيطاليا.
مريم الصياح أيضا لفتت إليها الأنظار على الخشبة وأكدت دورها بكل ما أوتيت من إحساس وهي تنطق نصها باللغة الإيطالية وترقص على إيقاع الأسطورة كما لفظت بعض الجمل باللغة الإنجليزية.
الثلاثي التونسي انصهر مع الخشبة ومع تفاصيل السرد حتى بدا قادما من عوالم أخرى معمدة بالأسطورة والحكي الشيق
الإخراج.. الإضاءة والموسيقى والأزياء
انطلاقا من المفارقة التي تقوم عليها الأسطورة كونها ضرورة ومستحيلا رسم المخرج سيمون مانينو ملامح الإخراج على نسق مقاربة جديدة لقصة “برومثيوس” في محاولة لاستكشاف عالم الأصول.
مستثمرا في المعنى والخرافات والغموض والرمز والطقوس ركن المخرج إلى أسلوب حمل فيه الأسطورة إلى المستقبل، إلى سنة 2072 حيث تحولت النار التي سرقها “برومثيوس” إلى نقيضها وغمرت مياه البحار الكوكب إثر تفاقم اختلال التوازن البيئي.
إيقاع تراجيدي انعدمت فيه الحياة وتبدى فيه الموت بتمظهرات مختلفة وعاضدته الإضاءة التي أوجدها صبري عتروس لتحاكي العوالم المتخيلة وتساير تراجيديا الكوت وصراعات الشخصيات في داخلها وفي ما بينها.
وتعالت الموسيقى والمؤثرات الصوتية التي اختارها “غايتانو دراغوتا” والتي كانت شخصية مستقلة بذاتها على الركح تعكس العنف والقسوة ومشاعر الخوف والهلع وتتشبث بالحياة وتحاول الهرب من الموت.
ومن بين العناصر الجذابة في العرض الأزياء المستلهمة من لون البحر إذا ما عانق السماء والأحذية التي يحاكي وقعها على الخشبة حكايا الأثير في ذروة صراع البشر مع الطبيعة.