“ما يراوش” مسرحية عرائسية للمخرج منير العرقي يسائل من خلالها واقع تونس إنسانيا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا ويحاكمه عبر رحلة لامتناهية لمجموعة من فاقدي البصر، رحلة تحاكي البحث عن الحقيقة وسط أكوام الزيف.
إلى سبل أخرى موشحة بالجمالية والنقد يحمل منير العرقي فنون العرائس فيما تتناثر الرمزيات والدلالات على ركح مهرجان الحمامات الدولي حيث صارت العرائس والممثلون الذين يبثون فيها من أرواحهم كيانات واحدة حمالة للوجع والغضب باحثة عن نقطة ضوء وهي توغل السير في النفق.
ما يراوش” مستلهمة من “العميان” لموريس مترلنك ورأت النور ضمن مختبر العرائسيين الشبان، وفي تفاصيلها تتبدى حرفة الاستلهام من النص الأصلي لخلق نص جديد يحتمل أكثر من تأويل ويفضي إلى قراءات متلونة حسب الخلفيات والمرجعيات والانتظارات وما يشوبها من مخاوف.
في تفاصيل النص الذي يعتمد على لغة بسيطة بإيحالات فلسفية وجودية قصص متشعبة تتولد عن كل منها حكايات أخرى وتمثلات أخرى لنفس الحدث مع اختلاف زاوية النظر ومنسوب الضوء واتجاه التيارات.
الموسيقى و المؤثرات الصوتية تعري الواقع أكثر فأكثر وتوغل في الدواخل حتى تبدو أجساد الممثلين على الخشبة أرواحا شفافة للعرائس وتغدو معها أجساد العرائس امتدادا للممثلين.
أصوات من عمق الغابات، حفيف الأشجار، همس الظلام، صدى الأمواج إذ تلاطمت، إيقاعات المطر، نغمات الحياة الممتدة بين الخوف والأمان وصوت العصي إذ ناجت الطريق تصاعدت على الركح وجعلت منه فضاء محملا بالمعاني والرسائل.
على إيقاع الموسيقى الموشحة بالمناجاة والبوح والشكوى والدعاء، تتزعزع الثوابت ويصبح كل متحرك جامدا أمام سيل الوجع وأثر العنف والاغتصاب والتهميش والنسيان والظلام الذي طال القلوب قبل العيون.
فيما “العميان” يتلون قصصهم، قصصا من تونس، يحولون أنظارك تارة إلى النور وتارة إلى الظلام حيث يمكن سبر حقائق لا تتعرى تحت الضوء وتسقط أوراق التوت تباعا ومع كل ورقة تمتد المتاهة ويصرخ داخلك صوت ” كلنا عميان مع وقف التنفيذ”.
وهذا العمل الفني المختلف موّجه للشباب والكهول، وهو من إنتاج المركز الوطني لفن العرائس، عن نص ودراماتورج وإخراج محمد منير العرقي بمساعدة صبري عبد اللاوي وتمثيل وتحريك العرائس لكلّ من هيثم وناسي، وفاطمة الزهراء المرواني، وأسامة الماكني، وهناء الوسلاتي، وأسامة الحنايني، وضياء المنصوري، وإيهاب بن رمضان، وأميمة المجادي، ومحمد الطاهر العابد وعبد السلام الجمل، عن سينوغرافيا لحسان السلامي، وكوريغرافيا لحافظ زليط.
وأما موسيقى العمل فقد أوجدها أسامة المهيدي فيما خلق أمين الشورابي الإضاءة وأشرف الأسعد المحواشي على ورشة صنع العرائس واهتم عبد السلام الجمل بتصميمها وتنفيذ الصنع وتصميم الملابس لتتظافر كل العناصر لخلق فضاء رمزي تظهر فيه الحقيقة عارية ونبصرها بأعين “العميان”.
وعلى امتداد 75 دقيقة يستثمر المخرج منير العرقي فن العرائس للنقد ومساءلة الواقع في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من خلال شخصيات فاقدة للبصر في اختيار رمزي يحيل إلى ثنائيات الحقيقة والسراب والنور والظلام ومقاومة الاستسلام..
وفي هذا العمل يقترح العرقي إطارا سينوغرافيا يختبئ فيه الممثل وراء المريونات (العرائس) ومسارا إبداعيا يمزج بين الفنون ظهرت فيها العرائس كعنصر لتجاوز الصعوبات الإخراجية للمسرحية ذات الطابع الجامد والشخصيات الثابتة.
مجموعة من فاقدي البصر يتوهون في الغابة يتلمسون ظلامها ويتجاذبون أطراف الحديث فيما يختفي دليلهم الذي وعدهم بالشمس والشاطئ، وعلى إيقاع سؤال ” كيف سيتصرفون في مكان غريب مفعم بالعتمة” تتواتر الأحداث…
وعلى نسق الإضاءة التي تحتد وتخف وتتبدى وتتخفى تتجلى رمزيات العمى ويقحم المخرج الجمهور في المتاهة التي جذبت إليها العرائس ومحرّكيها على إيقاع موسيقى تحاكي أصوات الطبيعة.
وفيما تنصهر العرائس مع الممثلين الذين يحركونها تتناثر على الخشبات حكايات من الخانات المظلمة يمازح فيها البوح والغضب والوجع والرغبة في التجاوز في سياقات درامية تتعززها الموسيقى والأصوات المستلهمة من الطبيعة ورقصات الضوء.
العلاقة بين الأنا والآخر وبين الفرد والمجموعة، العنف الذي يتخذ أكثر من هيئة، السلطة الذكورية، الظلم المسلط على المرأة، الاغتصاب في أشكاله الكثيرة، الزيف الذي حجب الحقيقة، بعض المواضيع التي خاضت فيها المسرحية.
رحلة بحث تجلت في فضاء منفتح على احتمالات متعددة ولكنه في نفس الوقت منغلق على ذوات موجوعة تلاحق الحقيقة كما تلاحق النور الذي تلاشى منذ لحظة العمى الأولى
ومن خلال فاقدي البصر يتطرق المخرج منير العرقي إلى مسألة الأقليات والفئات المهمشة في تونس ويقترح من خلالها نقدا غير مباشر الأوضاع السياسية والاجتماعية والإنسانية عموما.