فيما أعلن مهرجان قرطاج الدولي عن تأجيل العرض المشترك بين ثلاثي تقسيم وثلاثي جبران وأعلن مهرجان دقة الدولي عن إلغاء عرض “المربع”، أبقى مهرجان الحمامات الدولي على عرض “دنيا” لمحمد علي شبيل ومحمد بن صالحة.
ومع وصول الجمهور إلى المدارج تهاطل المطر حتى وشح المدارج والركح. ومع توفر كل الأسباب لإلغائه أو تأجيله ظل العرض قائما وانطلق مع منتصف الليل وسط أجواء شاعرية خلقها الطقس من جهة والإصرار على تقديم العرض من جهة أخرى.
لم يكن الأمر بالهين على أدارة المهرجان ولا القائمين على العرض ولا على الفريق التقني ولكن ذلك الجمهور الذي حل ليواكب مشروعا موسيقيا مجددا وملهما أجج الحماسة المتقدة في أعين الجميع لإحياء العرض.
كان من المفترض أن ينطلق العرض على الساعة العاشرة كما العادة ولكن كان للمطر أحكامه ورغم انهمار خيوطه لم تتقهقر إرادة الجمهور في المرابطة بالمدارج قيد أنملة فيما الفريق التقني للمهرجان يتحرك كخلية نحل لقطع الطريق أمام أي إشكال تقني.
المهمة ليست سهلة مع استمرار تساقط المطر على الركح لوقت طويل نسبيا ولكن جاهزية الفريق التقنية مكنته من تجاوز الأمر بالمقامات وليصبح صوت محمد علي شبيل المعهدطبوع التونسية ويبعث روحا أخرى في المسرح.
في الأثناء افترش الجمهور المدارج المبتلة من قطرات المطر وتطلّع إلى عيون الليل التي أبرقت على إيقاع ألحان وكلمات “دنيا”، المشروع الذي اتخذ ملامح أخرى في ظل التقلبات الجوية التي أظهرت وجها حالما لجمهور الفن في تونس ولالتزام الفنانين تجاهه.
في الغناء محمد علي شبيل، وفي العزف محمد بن صالحة على آلة الناي وعطیل معاوي على آلة الكمنجة وعلي بن خلیفة على الباص وهادي فاهم على آلة القیتار و محمد علي العش على الباتري وقيس بورقيبة ولطفي صوة على الايقاعات وعلاء بن فقیرة على الكلافيي وشكري داعي على البيانو، فنانون تسلحوا بالإصرار على تقديم العرض ليعانقوا حب الجمهور.
في الواقع الحب تيمة أساسية في مشروع “دنيا” تتجلى منذ رسم معالمه الأولى وصولا إلى عرضه على ركح الحمامات في ظروف صعبة تجاوزها الكل معا لحبهم لما يقدمون كما تظهر أيضا في مواضيع النصوص المختارة.
أغان ملتزمة بالحب والوطن والأمل تبدّت في “دنيا” التي بعث فيها موسيقيون ملتزمون ومؤمنون بقوة الفن وقدرته على حفظ الذاكرة والتوثيق للتاريخ والتغيير أيضا حياة تشبه تمسكهم بجذورهم وانفتاحهم على كل الاحتمالات الموسيقية.
ألحان مختلفة الجذور والمنابع تعالت في أرجاء المسرح يتجلى فيها النمط الصوفي والمالوف والنمط الشعبي فيما صدحت حنجرة محمد علي شبيل بكلمات تعكس دواخل الإنسان في حالاته الذهنية والنفسية المختلفة.
وعلى نسق أجواء شاعرية خلقتها خيوط المطر والنسمات التي وشحت مسرح الحمامات تجلت مواضيع مقتبسة من الواقع في أبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية في أغان تستلهم عناصرھا التعبیریة والتقنیة أساسا من الموروث الموسیقي.
موسيقى تونسية أصولها ثابثة في زوايا تونس وأركانها وفروعها ممتدة إلى أصقاع العالم تنهل من موسيقاتها تصاعدت في الأرجاء حينما اندمج العازفون مع آلاتهم الموسيقية وخلقوا حوارات ثنائية كفكفت السماء دموعها على نسقها.
وكأن بالمطر خجل من عزيمة الجمهور الذي لم يأبه لسوء الأحوال الجوية ولم يمل الانتظار، ومن الموسيقى التي لم تتأثر بالتوتر الذي سبق التحضير للعرض وسط مخاوف من استمرار الغيث بغزارة، وكأني ب انهمر ليجعل هذا العرض استثنائيا.